📡ألـشـبـكـة ألـدعــويــة ألـرائــدة، ألـمـتخـصـصـة بـالـخـطــب ألـمـنــبــريــه، والـمـحــاضــرات ألـمـؤثــره، والـبــعـض من ألــفتــاوى ألـديـنـيـــه، إذا أرت أي خطبه ألرجاء ألتواصل👈t.me/zakaryaa26 لحضه✋ من فضلك قبـل أن تغـادر ألقـناة 👈(إستغفـر ﷲ)🌷
وقال بعضُهم: هو الإِسلام؛ لأن فيه حياتَهم من الكفر، كما قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) [الأنعام:122].
وقيل: هو الجهاد؛ لأنَّ فيه عزَّ المسلمين بعد الذُّلِّ، والقوةَ بعد الضَّعف.
ثم توعد سبحانه من لم يستجِبْ لما دعا إليه، فقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال:24].
فمن لم يستجب له ولرسوله عاقبَه بصرفِ قلبه، فلا يقبلُ الحقَّ بعدَ ذلك، كما قال تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام:110].
وقال تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف:5].
فإيَّاكم أن تَرُدُّوا أمر الله أولَ ما يأتيكم، فيُحالَ بينكم وبينَ قبولِهِ، فإنَّ الله يحولُ بينَ المرء وقلبه، ويقلِّبُ القلب حيثُ يشاءُ، ولهذا كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: "يا مُقَلِّب القلوب ثِّبتْ قلبي على دينِك".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ القلوبَ بين أصبعين من أصابع الرحمنِ يُصَرِّفها كيف يشاء".
عبادَ الله: يقول الله -تعالى-: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر:17-18].
إنَّه مطلوبٌ منا الاستماعُ والاتباعُ، مطلوب منا استماعُ كلام الله وكلام رسوله، فإنَّ من لم يسمع اليوم سيندمُ غداً حين يقول الكفار: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك:10].
مطلوب منا استماعُ الخطب والمحاضرات الدينية، مطلوبٌ منا حضورُ الدروس والندوات لنستمعَ ما يُفيدنا، ونتفقه في ديننا، مطلوبٌ منا استماع البرامج الدينية المفيدة التي تُذاعُ وتصل إلى كُلِّ بيت وإلى كل مكان.
ولكنَّ الكثيرَ منا لا يسمعون ولو سمعوا، فإنهم لا يعقِلُون.
إنَّ الأرض إذا لم ينزل عليها المطرُ، ويصلْ إليها الماءُ ماتت، وكذلك القلوبُ إذا لم يصلْ إليها الوحيُ والذِّكْرُ، عَمِيَتْ ومَرِضَتْ وماتَتْ.
وإذا كان الإِنسانُ لا يحضُر خطبةً، ولا يسمع موعظة، ولا يتلو قرآناً، ولا يقرأُ حديثاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فماذا ستكونُ حاله؟ ومن أينَ يفقَهُ في دينه؟ وكيف يستجيبُ لله ولرسوله؟
إنَّ الاستجابة لا تكون إلا بعد سماع دعوة، والله قد دعانا في كتابه وعلى لسان رسوله، فهو سبحانه يدعو إلى دارِ السلام: (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [إبراهيم:10].
ومَنْ سمع دعوةَ الله وجبَ عليه أن يُجيبَ.
(وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الأحقاف:32].
ومن الناس مَنْ يرفُضُ إجابةَ داعي الله بالكلية، وهؤلاء هم الكفار والمنافقون الذين قالوا: سمعنا وعصينا.
ومن الناس مَنْ يقبَلُ ما يُوافقُ هواه، ويرفُض ما خالفه.
وهذا عبدٌ لهواه، وليس عبدَ الله المُتَّبع لنداء مولاه، قال تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص:50].
وهذا شبيهٌ بالذين يؤمنون ببعضِ الكتاب، ويكفرون ببعض، فتراه يُدْعَى إلى حُضوِر صلاة الجماعة في المسجد فلا يجيبُ، تراه يُدْعَى إلى تركِ الربا، والرشوة والمعاملات المحرمة ولا يُفَكِّرُ في تركها والابتعاد عنها، تراه يُؤْمَرُ بالمعروف وينهى عن المنكر فلا يمتثلُ، مع أنه يتسمَّى بالدين، ويقول: إنني من المسلمين.
فهذا إنْ سَلِمَ من الكفر لم يسلَمْ من الفِسْقِ والنفاق، وسوءِ الأخلاق.
إنَّ دعوة الله تبلُغُ كُلَّ مكلف بطرقٍ متعددة، من طُرُقِ تلاوة كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومن طريقِ الدُّعاةِ إلى الله، من طريق الآمرينَ بالمعروفِ والناهين عن المنكر، ومن طريق المنادين للصلاة في اليوم والليلة خمسَ مرات، وهكذا لا تَمُرُّ لحظةٌ إلا ويسمع الإِنسان داعياً إلى الله، ويُسَجَّلُ عليه أوله ما يقابل به تلك الدعوةَ من إجابةٍ أو رفض، ومن ثواب وعقاب.
عبادَ الله: ومِنَ الناس من يُؤْثِرُ سماع الأغاني والألحان، ومزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن، ويُؤِثِرُ الذهابَ إلى الملاهي والملاعب على الذهابِ إلى المساجد، ويؤثر الاستماعَ إلى المطرب فلان، وإلى الأغنية الماجنة على الاستماع إلى الواعظ، فيكون من الذينَ قال الله فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ
عباد الله: وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله؛ كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحمي حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا يا رب العالمين
اللهم وفِّق ولي أمرنا وولي عهده لرضاك، وأعنهما على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم احفظ رجال أمننا و جنودنا، واحم حدودنا وثغورنا يا رب العالمين
اللهم اشف مرضاهم، وارحم موتاهم، وتقبلهم في الشهداء يا ربَّ العالمينَ.
اللهم بارك لمن حَضَرَ معنا صلاتنا هذه في علمه وعمره وعمله، وبارك له في بدنه وصحته وعافيته، وبارك له في أهله وولده، وبارك له في ماله ورزقه، واجعله يا ربنا مباركًا موفقًا مسددًا أينما حَلَّ أو ارتحل.
اللّهم آت نفوسنا تقواها، زكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللّهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من
سرعة الاستجابة لله ورسوله ﷺ - الشيخ عبدالباري الثبيتي
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي أمرَنا بالاستِجابة، وحثَّنا على بلوغ الفضل والإنابَة، أحمده -سبحانه- وأشكرُه على نعمة التوفيق وطريق السعادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في النُّسُك والصلاة والعبادة، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه علَّمَنا منهجَ الرَّشاد والقيادة، صلَّى الله عليه وعلى آلِه وصحبِه أُولِي العزم والسيادة.
أما بعد: فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
وقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال: 24].
الاستجابةُ لله والرسول هي الاستجابةُ للإسلام بكل ما فيه، استِجابةٌ شاملةٌ واسعةٌ في كل شيءٍ دعانا إليه ربُّنا ورسولُنا -صلى الله عليه وسلم-.
يستجيبُ المسلم لله في كل شؤون حياتِه، في الصلاة، والزكاة، والصيام، في طاعة الوالدَين، وصِلة الأرحام، والمُعاملات، في لِباسِه وهيئتِه وعملِه. والمرأةُ تستجيبُ لله في حجابِها، وسترها، وزينتها، ومنزلها، وعلاقتها مع زوجِها وأطفالِها.
سرعةُ الاستِجابة دليلُ الصدقِ في الاستِسلام، وهي ثمرةُ العلم النافع والعمل الصالح.
المُستجِيبُون لله ورسوله هم أهلُ الفلاح، وهم المؤمنون حقًّا، الفائِزون بالمطلوب، النَّاجُون من الكُرُوب، فتقرُّ أعينُهم، وتسعَدُ أرواحُهم.
قال الله تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور: 51].
هذا هو قولُ أهل الإيمان: سمِعنا وأطعنا، في المنشَط والمكرَه، والعُسر واليُسر. أما المُنافِقون فشِعارُهم الإعراضُ والتولِّي، وديدَنُهم الصدُّ عن سبيل الله، ومُخالفةُ أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) [النساء: 61].
في الاستِجابة لله والرسول حياةُ القلبِ والعقل، حياةُ النفس والمُجتمع، حياةُ الأمة كلِّها، ولهذا كان أكملُ الناس حياةً أكملَهم استِجابة، ومن ضعُفَت استِجابتُه ضعُفَ قلبُه ونقصَت حياةُ حياتِه، وأما من ماتَ قلبُه فلا استِجابةَ عنده؛ قال الله تعالى: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) [النمل: 80].
أما الذين يرفُضون الاستِجابةَ لله ورسوله فإنهم يرفُضُون الحياةَ الكريمةَ، وليس لهم إلا الدُّون، ومصيرُهم الهلاك، ومآلُهم الدمارُ والوَبالُ، قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) [إبراهيم: 28، 29].
ثم يقول الله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 25].
النُّكوصُ عن الاستِجابة يُسبِّبُ الاختلاف، واضطرابَ الأحوال، واختِلال الميزان، وشُيُوع الفساد، وهو المُعبَّرُ عنه بالفتنة.
عن زينَب بنت جحشٍ -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرجَ يومًا فزِعًا مُحمرًّا وجهُه يقول: "لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقتَرَب، فُتِح اليوم من رَدم يأجوج ومأجوج مثلُ هذا". وحلَّقَ بإصبَعِه الإبهامِ والتي تلِيْها. قالت: فقلتُ: يا رسول الله: أنهلِكُ وفينا الصالِحون؟! قال: "نعم، إذا كثُر الخبَث".
الأمةُ التي تستجيبُ لوحيِ ربِّها، وتُسلِمُ وجهَها لبارِئها يحسُنُ حالُها، وتتغيَّرُ حياتُها صلاحًا وإصلاحًا، ويتحقَّقُ لها الأمنُ والحياةُ الطيبة، والوحدة الصادقة بين المؤمنين، وتتحوَّلُ العداوةُ والبغضاءُ إلى أن يكونوا بنعمة الله إخوانًا، كما قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم مثلُ الجسَد إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسَدِ بالسَّهَر والحُمَّى".
ويستجيبُ الله للعباد إذا استجابُوا له -سبحانه-، وهو يُقدِّرُ الاستِجابةَ في وقتها بتقديرِه الحكيم، قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "يُستجابُ لأحدِكم ما لم يعجَل فيقول: قد دعوتُ فلم يُستجَبْ لي!". أخرجه البخاري ومسلم.
يستجيبُ الله لمن استجابَ له، قال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) [آل عمران: 195].
وكان بروز خلق الإصلاح والحرص عليه في النبي -صلى الله عليه وسلم- أوضح وأجلى في صلح الحديبية الذي تجلت فيه دلائل نبوته، ومكارم أخلاقه، فما كان بوسع أحد أن يقبله إلا هو صلى الله عليه وسلم لما جعل الله فيه من الصفات، وذلك لقسوة شروطه، وجفاء لهجته، كيف لا، والصحابة كلهم -رضي الله عنهم- إلا أبا بكر الصديق كانوا بين منكر له علناً، وساكت عنه تأدباً مع النبي، وهو صلى الله عليه وسلم يقول: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها" ؟
عباد الله: وإنما يكون الصلح محموداً ومثاباً عليه إذا كان في حدود ما أحل الله -تعالى-.
أما الصلح الذي يحرم حلالاً أو يحل حراماً، فإنه صلح مذموم منهي عنه، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً".
ليكن كل واحد منا عنصراً مصلحاً في الوسط الذي يعيش فيه، يجتمع الناس بسببك، تؤلف بين اثنين، وتصلح بين متخاصمين، فإن العديد من الأسر والعوائل فيها ما فيها من الخلافات، وسوء التفاهم، يصل أحياناً إلى سنوات وشكايات في المحاكم، وهم أحوج ما يكونون إلى رجل رشيد يجمع بينهم، ويؤلف بين قلوبهم، ويرفع الشحناء والبغضاء من صدورهم، فلماذا لا تكون أنت -يا عبد الله- هذا الرجل؟ أما أن نعيش سلبيين، يغلق الواحد منا عليه داره ولا هم له بغيره، فهذه سلبية مقيتة تتنافى مع الأخلاق الإسلامية.
فاتقوا الله -عباد الله- واحذروا من العداوة والشحناء بينكم، واحرصوا -رحمكم الله- على إصلاح ذات البين، والتجاوز عن الهفوات والزلات، طلباً لمرضاة الله -تعالى-، وحرصاً على الابتعاد عن سخطه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ...
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان غفوراً رحيماً.
-------------------------------------------------
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيرًا
أما بعد: فاتقوا الله -تبارك وتعالى- أيها الناس-، واعلموا -رحمكم الله- أن الإصلاح بين الناس من أفضل مقامات الإيمان، ولقد بلغت عناية الإسلام به، ومحبته له أن أباح فيه الكذب الذي هو من أقبح الرذائل الخلقية، إذا كان هذا الكذب وسيلة لإصلاح خصومة، ورفع نزاع، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً".
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: الرجل يكذب في الحرب، والحرب خدعة، والرجل يكذب بين الرجلين، ليصلح بينهما، والرجل يكذب للمرأة، ليرضيها بذلك".
قال الإمام الخطابي -رحمه الله-: "وهذه الأمور يضطر الإنسان فيها إلى زيادة في القول، ومجاوزة الصدق، طلباً للسلامة، ودفعاً للضرر، فقد رخص في بعض الأحوال في اليسير من الفساد، لما يؤمل فيه من الإصلاح الكبير".
والكذب في الحرب بين الأعداء: هو أن يظهر الرجل من نفسه قوة، ويتحدث بما يقوي أصحابه، ويكيد به أعداءه، فقد ذهب المسلمون لأداء عمرة القضاء في العام التالي للحديبية، فقال المشركون: أتاكم أتباع محمدٍ قد نهكتهم حُمى يثرب، فأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسعي في الطواف، حتى يغيظوا الكفار، ويردوا عليهم قولتهم.
وأما كذب الرجل على زوجته: فهو أن يظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه، ليستديم بذلك صحبتها وألفتها، ويصلح ما بينه وبينها من خصام، وهكذا تكون المرأة مع زوجها، فقد روي: "أن رجلاً قال في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لامرأته: نشدتك بالله هل تحبينني؟! فقالت: أما إذا نشدتني بالله فلا! فخرج حتى أتى عمر فأخبره، فأرسل إليها، فقال: أنتِ تقولين لزوجك: لا أحبك ؟ فقالت: يا أمير المؤمنين نشدني بالله، أفأكذب عليه ؟! قال: نعم، فاكذبيه، ليس كل البيوت تبنى على الحب، ولكن الناس يتعايشون بالإسلام والأحساب".
فاتقوا الله -عباد الله-: وأصلحوا ذات بينكم، تستديموا المحبة فيما بينكم، وتصلح أحوالكم، وتنالوا الأجر والثواب من الرحمن الرحيم.
عباد الله: وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله؛ كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
فضيلة الإصلاح بين الناس - الشيخ ناصر الأحمد
الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أيها المسلمون: الخلاف بين الناس والخصومة بينهم غريزة فطرية أودعها الله -عز وجل- في نفوس البشر منذ خلقهم، وجعل سبحانه وتعالى لهذه الغريزة أسباباً ومحركات تؤدي إلى غليانها في النفس، وثورانها في المجتمع، حتى بين القريب وقريبه، وبين والأخ وأخيه.
وأول هذه الأسباب: الشيطان: الذي يأمر بالفحشاء والمنكر، ويعد الفقر، أي أن يعبده المسلمون فعمد إلى التحريش بينهم، وزرع الخلاف والفرقة والشحناء في نفوسهم.
وثانيها: النفس الأمارة بالسوء، والهوى والشح والبخل.
وثالثها: شياطين الإنس من البشر: الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، يسوؤهم اجتماع الأخلاء، وترابط الأقرباء، مما يحملهم على النميمة، والتحريش بينهم، واختلاق الأمور المفسدة للعلاقات، حتى يتصدع بنيان القرابة، وتتزعزع رابطة الأخوة، فيوجد الخلاف، وتثور الفتنة، وتنتشر القطيعة، حتى تفرق بين المحب وحبيبه، والقريب وقريبه، والصاحب وصاحبه، وحتى يهجر الولد أباه، والزوج زوجه، والأخ أخاه، والجار جاره، مما يفكك روابط المجتمع، ويجعله لقمة سائغة في أيدي أعدائه أياً كان جنسهم.
عندها تفسد النيات، وتتغير القلوب، وتتدابر الأجساد، وتظلم الوجوه، فتقع الحالقة التي تحلق الدين، وتذهب الأخوة الإسلامية.
عباد الله: وأبرز أثر ونتيجة للخلاف والخصام بين المسلمين: التهاجر والقطيعة، ولهذا نهى الله -تعالى- عن التهاجر بين المسلمين، وأمر بإصلاح ذات البين، وجعل ذلك من أعظم القربات، وأجل الطاعات؛ لأنه السياج المنيع الواقي للأخوة الإسلامية التي رغب فيها الإسلام، والدرع الحصين لوحدة الأمة التي حرص الإسلام على تماسكها وسلامتها، قال الله -تعالى-: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [الأنفال: 1].
ولقد أخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "أن من هجر أخاه سنة، فهو كسفك دمه".
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يعرض هذا فيعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام".
ولو لم يكن من شؤم الهجر والقطيعة إلا ما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظِرا هذين حتى يصطلحا".
لو لم يكن من شؤم الهجر والقطيعة إلا هذه العقوبة المتمثلة في رد الأعمال الصالحة، وعدم قبولها، لكان خليقاً بالمسلم الحريص على دينه، ونجاة نفسه، أن يبتعد عنه، ويحذر منه، ويعمل جاهداً على غض الطرف عن الزلات، والتجاوز عن الهفوات، والحرص على سلامة الصدور، وصفاء القلوب.
عباد الله: ولِما للهجر والقطيعة بين المسلمين الناتجان عن الخلاف والتخاصم بينهم من هذه الآثار السيئة، ندب الإسلام أتباعه إلى أن يبذلوا الوسع والجهد في الإصلاح بين الناس، رحمة بهم، وشفقة عليهم، وطمعاً في فضل الله -تعالى- ورحمته الذين وعدهما من أصلح بين الناس ابتغاء مرضاة الله -تعالى-.
وإن المتأمل لما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد".
يجده خير مثال يصور حقيقة المؤمنين في مجتمعهم، فهم جسد واحد كالبنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضاً، إذا انهدم منه ركن أو اعتل منه جزء فسد حاله، وضعف شأنه.
إن من الناس من يأبى أن يسعى في الصلح فلان أو فلانةٌ، وآخر يصر على أن تكون المبادرة من خصمه. وتمشياً مع هذه المسالك السرية والتحركات المحبوكة أذن الشارع للمصلح بنوع من الكذب في العبارات والوعود.
"فليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيراً، أو يقول خيرا" هذا هو حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وفي خبر آخر عنه يقول -عليه الصلاة والسلام-: "لا يصلح الكذب إلا في ثلاث؛ رجل يصلح بين اثنين، والحرب خدعة، والرجل يصلح امرأته" ويقول نعيم بن حماد: قلت لسفيان بن عيينة: أرأيت الرجل يعتذر من الشيء عسى أن يكون قد فعله ويُحرِّف فيه القول ليرضي صاحبه أعليه فيه حرج؟ قال: "لا. ألم تسمع قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس بكاذب من قال خيراً، أو أصلح خيراً، أو أصلح بين الناس" وقد قال الله -عز وجل-: (لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء:114].
إنها النفوس الشحيحة التي تحمل صاحبها وغيرها على ما تكره. ولكن في مقابل هذه النفوس الشحيحة يترقى أصحاب المروءات من المصلحين الأخيار؛ ليبذلوا ويغرموا، نعم يبذلون الوقت والجهد، ويصرفون المال والجاه.
ولقد قدر الإسلام مروءتهم، وحفظ لهم معروفهم، فجعل في حساب الزكاة ما يحمل عنهم غرامتهم -بارك الله فيهم-؛ لئلا يُجْحِفَ ذلك بسادات القوم المصلحين.
أيها الإخوة في الله: وميدان الصلح واسع عريض؛ في الأفراد والجماعات والأزواج والزوجات، والكفار والمسلمين، والفئات الباغية والعادلة، في الأموال والدماء، والنزاع والخصومات.
ومن أجل ذلك فقد عظم ثوابه، وكبر أجره، فهو أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدِّين" ولقد باشر الصلح بنفسه -عليه الصلاة والسلام- حين تنازع أهل قباء، فندب أصحابه وقال: "اذهبوا بنا نصلح بينهم".
وخرج -عليه الصلاة والسلام- للإصلاح بين أناس من بني عوف حتى تأخر عن صلاة الجماعة.
والإمام الأوزاعي -رحمه الله- يقول: "ما خطوة أحب إلى الله -عز وجل- من خطوة في إصلاح ذات البين".
إذا كان الأمر كذلك -أيها الاخوة- فمن ذا الذي لا يقبل الصلح ولا يسعى فيه، ليسوا إلا أناس قد قست قلوبهم، وفسدت بواطنهم وخبثت نياتهم؛ حتى كأنهم لا يحبون إلا الشر، ولا يسعون إلا في الفساد، ولا يجنحون إلا إلى الظلم.
والأشد والأنكى أن ترى فئات من الناس ساءت أخلاقها، وغلظت أكبادها، لا يكتفون بالسكوت والسكون، بل في أجوائهم يستفحل الخصام، ويقسو الكلام، وما أشبه هؤلاء بأعداء الإسلام وأهل النفاق، إنهم يلهبون نار العداوة ويوقدون سعير البغضاء كلما خبت نار الفتن أوقدوها. ولا غرو بعد ذلك أن تضيع الحقوق، وتهدر الحرمات، ويرق الدين، وتنزع البركات.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، اتقوه وأصلحوا ذات بينكم.
-------------------------------------------------
الخطبة الثانية:
الحمد لله، لا تحصى نعمة ولا تحد، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن سيدنا ونبينا رسول الله محمد، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، فتقوى الله خير زاد.
أيها الإخوة: الكريم لا يحقد ولا يحسد ولا يبغي ولا يفجر، إن بلغه عن أخيه ما يكرهه التمس عذراً، فقد علم أن الاعتذار يذهب الهموم، ويجلي الأحزان، ويرفع الأحقاد، ويزيل الصدود.
إن حقاً على -إخوة الإيمان- أن يسود بينهم أدب المحبة، أدب ينفي الغش والدغل مع استسلام لله بما يصنع، ورضاً بما يكتب.
اسمعوا -رحمكم الله- إلى هذا الحديث: روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر الله لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئا إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا" قال الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله-: "يدل هذا الحديث على أن الذنوب إذا كانت بين العباد فسامح بعضهم بعضاً سقطت المطالبة بها من قبل الله عز وجل". الله أكبر -يا عباد الله-: (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ) [النساء:147].
وسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما؛ إذا أحدهم يستوضع الآخر ويسترفقه -أي يطلب منه أن يخفف عنه دينه-، وهو يقول: والله لا أفعل. فخرج عليهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: " أين المتألي على الله ألا يفعل المعروف؟" فقال: أنا يا رسول الله. فقال له: "أي ذلك أحب؟".
التوكل عمل قلبي محض، ومعناه: صدق الاعتماد على الله عز وجل في جلب المنافع ودفع المضار، مع فعل الأسباب التي أمر الله بها، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً).
عن عمر بن الخطاب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لزرقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً(رواه أحمد)؛ فهذه الطيور تذهب أول النهار جائعة ضامرة البطون، وتعود آخره قد شبعت من الطعام.
قيل لحاتم الأصم: على ما بنيت أمرك في التوكل؟ قال: "على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنّت نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا مستح منه".
المفتاح السادس: المتابعة بين الحج والعمرة، قال النبي: “تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور إلا الجنة”(رواه أحمد).
المفتاح السابع: التفرغ لعبادة الله، قال الله تعالى في الحديث القدسي: “يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت يدك شغلاً، ولم أسد فقرك”(رواه الترمذي).
نصيبك من الدنيا مضمون سيأتيك، ولن تموت حتى تستكمله، لكن الشأن في منزلتك في الآخرة، أعد لها العدة هنا، وتأهب للسفر قبل الرحيل.
المفتاح السابع: الاستقامة على الدين؛ بفعل أوامره واجتناب نواهيه، قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)
وفي الحديث عنه: “إن الرجل ليُحرم الرزق بالذنب يُصيبه”(رواه أحمد).
ومن ذلك: شكر النعم، قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)؛ فمن شكر الله على رزقه كافأه بالمزيد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------------------------------
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله،وإحسانه،وأشكره على توفيقه وامتنانه،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه،وسلَّم تسليماً كثيرًا، أما بعد:
عباد الله: المفتاح الثامن: الدعاء؛ فهو الملاذ في الشدة، فإن ضاق عليك رزقُك وعظم عليك همك وغمك وكثر عليك دَينك فالجأ إلى الله، واقرع الباب الذي لا يخيب قارعه، واسأل الله جل جلاله فهو الكريم الجواد، وما وقف أحدٌ ببابه فنحّاه، ولا رجاه عبدٌ فخيّبه في دعائه ورجاه.
جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: علمني كلاما أقوله، قال: “قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له والله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم”، قال: هؤلاء لربي، فما لي؟، قال: “قل: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني”.
ودعا لأنس بن مالك، فقال: “اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته”، قال أنس: فو الله إن مالي لكثير وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة اليوم. متفق عليه
أحسن الظن بربك، وتفاءل بالخير، وإياك والقلق والتشاؤم
قُلْ للَّذِي مَلأَ التَّشَاؤُمُ قَلْبَهُ *** وَمَضَى يُضيِّقُ حَوْلَنَا الآفَاقَا
سِرُّ السَّعَادَةِ حُسْنُ ظَنِّكَ بِالَّذِي *** خَلَقَ الْـحَيَاةَ وَقَسَّمَ الأَرْزَاقَا
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله؛ كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحمي حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا يا رب العالمين
خلقه بما يشاء؛ فيُغني مَنْ يشاء، ويُفقِر مَنْ يشاء، بما له في ذلك من الحكمة؛ فقد تجد أكْيَسَ الناس وأجوَدَهم عقلاً وفهماً مُضَيَّقاً عليه في الرزق، وبِضِدِّه ترى أجهلَ الناس وأقلَّهم تدبيراً مُوَسَّعاً عليه في الرِّزق, فالمُضيَّق عليه لا يدري أسبابَ التَّضييق، والمُوَسَّع عليه لا يدري أسبابَ تيسير رِزقه؛ ولهذا قال -سبحانه-: (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا).
وبعض الناس لو أعطاهم الله -تعالى- فوق حاجتهم من الرزق؛ لحملهم ذلك على البغي والطغيان؛ أشراً وبطراً, قال -تعالى-: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)[الشورى: 27]؛ فهذا من لُطْفِ الله بعباده، أنه لا يُوَسِّع عليهم الدنيا سَعَةً، تَضُرُّ بهم؛ (وَلَكِنْ يُنزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ), بحسب ما اقتضاه لُطفه وحِكمته؛ لأنه (بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ).
وقال -تعالى-: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)[الحجر: 21]؛ فجميع الأرزاق لا يملكها أحد إلاَّ الله، فخزائنها بيده, يُعطي مَنْ يشاء، ويمنع مَنْ يشاء، بحسب حكمته ورحمته الواسعة, (وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)؛ فلا يزيد على ما قدَّره الله, ولا ينقص منه.
عباد الله: التقوى والطاعة سببٌ عظيم لحصولِ الرزق, والبركةِ فيه, قال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)[الأعراف: 96], وقال -سبحانه-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2, 3]؛ فالله -تعالى- يسوق الزرق للمُتَّقي, من جهةٍ لا تخطر بباله.
وبِضِدِّ ذلك المعاصي؛ فإنها تُنْقِصُ الرِّزقَ والبركة؛ لأن ما عند الله -تعالى- لا يُنال إلاَّ بطاعته, قال الله -تعالى-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الروم: 41]؛ قيل: الفساد في البَّر: القحط, وقلة النبات, وذهاب البركة, والفساد في البحر: انقطاعُ صيدِه بذنوب بني آدم, وقيل: هو كساد الأسعار, وقلة المعاش, فتبيَّن أنَّ المعاصي تُفسد الأخلاقَ والأعمالَ والأرزاق؛ كما أنَّ الطاعات تَصْلُح بها الأخلاقُ، والأعمالُ، والأرزاقُ، وأحوالُ الدنيا والآخرة.
عباد الله : صلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله؛ كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56]
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد
وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحمي حوزة الدين يا رب العالمين
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتبع رضاك يا رب العالمين
اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا يا رب العالمين
اللهم وفِّق ولي أمرنا وولي عهده لرضاك، وأعنهما على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم احفظ جنودنا، واحم حدودنا وثغورنا ، يا رب العالمين، واحفظ رجال أمننا يا رب العالمين
اللهم اشف مرضاهم، وارحم موتاهم، وتقبلهم في الشهداء يا ربَّ العالمينَ
اللهم بارك لمن حَضَرَ معنا صلاتنا هذه في علمه وعمره وعمله، وبارك له في بدنه وصحته وعافيته، وبارك له في أهله وولده، وبارك له في ماله ورزقه، واجعله يا ربنا مباركًا موفقًا مسددًا أينما حَلَّ أو ارتحل
اللّهم آت نفوسنا تقواها، زكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها
اللّهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر
اللّهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
ربنا إن ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
هموم الرزق - الشيخ محمود الدوسري
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)[آل عمران: 102].
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)[النساء: 1].
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيماً)[الأحزاب: 70 و71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال: 29].
وبعد: مِنْ أكثرِ الهُموم التي تُشغِلُ الناسَ وتُرهِقُهم؛ هَمُّ تحصيلِ الرِّزق, مع أنَّ اللهَ -تعالى- قَسَمَ رِزْقَه بين الخلائق, وضَمِنَ لهم ذلك, حتى الأجِنَّة في بطون أُمَّهاتهم, فالواجب على العباد أنْ يتوكَّلوا على الله -تعالى-, ويأخذوا بالأسباب؛ كما فَعَلَت الطيور, قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ؛ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ, تَغْدُو خِمَاصًا, وَتَرُوحُ بِطَانًا"(صحيح, رواه ابن ماجه).
واللهُ -تعالى- هو الرزَّاق لِخَلْقِه, المُتكفِّلُ بأقواتهم, والقائِمُ على كل نَفْسٍ بما يُقيمها من قُوتها, وسِعَ الخلقَ كلَّهم رِزقُه ورحمتُه, فلم يختصَّ بذلك مؤمناً دون كافر, ولا وليًّا دون عدوٍّ, يَسُوقُ الرِّزق إلى الضعيف الذي لا حَول له؛ كما يسوقه إلى الجَلْد القوي, يقول -تعالى- مُخبِراً عن لُطفِه بخلقه في رِزقِه إيَّاهم عن آخِرِهم، لا ينسى أحداً منهم: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[هود: 6]؛ فالله -تعالى- مُتكفِّل بأرزاق المخلوقات، من سائرِ دوابِّ الأرض صغيرِها وكبيرِها، بَحْرِيِّها، وبَرِّيِّها؛ (يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا)؛ يعلم أين مُنتهى سَيرِها في الأرض؟! وأين تأوي إليه من وكْرِها، وهو مُستودَعُها؟!.
ورِزقُه -تبارك وتعالى- لا يختص ببقعة؛ بل رِزقه -تعالى- عامٌّ لِخَلْقِه حيث كانوا, وأين كانوا، فيبعث إلى كلِّ مَخلوقٍ من الرزق ما يُصلحه، حتى الذَّر في قرار الأرض، والطير في الهواء, والحيتان في الماء؛ فَلْتَطْمَئِنَّ القلوبُ إلى كفاية مَنْ تَكفَّل بأرزاقها، وأحاط عِلماً بِذَواتِها، وصِفاتِها.
ورِزْقُ اللهِ لعباده نوعان: الأوَّل: رِزْقٌ عامٌّ؛ يشمل البرَّ والفاجر, والمؤمنَ والكافر, وهو رِزقُ الأبدان, وهذا من عظيم لطفه بعباده؛ كما قال -سبحانه-: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ)[الشورى: 19], وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ"(رواه البخاري ومسلم)؛ فالله -تعالى- واسِعُ الحِلم, حتى مع الكافر الذي ينسب له الولد, فهو يُعافيه ويرزقه.
والثاني: رِزْقٌ خاص؛ وهو رِزْقُ القلوب وتغذيتها بالعلم والإيمان, والرِّزق الحلال الذي يُعِينُ على صلاح الدِّين, وهذا خاصٌّ بالمؤمنين على مختلف مراتبهم, بحسب ما تقتضيه حكمته ورحمته, وأعظمُ رِزقٍ يَرزُق اللهُ به عِبادَه المؤمنين هو الجنة, التي خَلَقَ فيها ما لا عين رأت, ولا أُذن سمعت, ولا خَطَر على قلب بشر؛ بل كلُّ رِزقٍ يَعِدُ الله به عبادَه الصالحين فغالباً ما يُراد به الجنة؛ كقولِه -تعالى-: (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[الحج: 50], وقولِه -تعالى-: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا)[الطلاق: 11].
ومَنْ طالَعَ صفة الجنة؛ عَلِمَ سعةَ رِزقِ أهلها, وكثرتَه وطِيبَه وتنوُّعَه؛ (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[الزخرف: 71], فهو أحسن الرزق وأكملُه وأفضلُه وأكرمُه, لا ينقطع ولا يزول؛ (إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ)[ص: 54], وهو رزق واسع عظيم, خَصَّ اللهُ به المؤمنين,
قَالَ تَعَالى: ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [إبراهيم: 48].
وقَالَ تَعَالى: ﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 47].
ورَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا[22]».
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟!
قَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ»[23].
وَهذا الحشرُ عامٌّ لجميعِ الخلائقِ، وهناكَ حشرٌ آخرُ إما إلى الجنةِ، وإمَّا إلى النارِ، فنسأل الله من فضله.
فيُحشرُ المؤمنونَ إلى الجنةِ وفدًا، والوفدُ همُ القائمونَ الرُّكبَانُ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ﴾ [مريم: 85].
قَالَ عَليٌّ رضي الله عنه فِي قَولِهِ تَعَالى: ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ﴾، قال:«أَمَا وَاللهِ مَا يُحْشَرُ الْوَفْدُ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، وَلَا يُسَاقُونَ سَوْقًا، وَلَكِنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ بِنُوقٍ لَمْ يَرَ الخَلَائِقُ مِثْلَهَا، عَلَيْهَا رِحَالُ الذَّهَبِ، وَأَزِمَّتُهَا الزَّبَرْجَدُ، فَيَرْكَبُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَضْرِبُوا أَبْوَابَ الجَنَّةِ»[24].
وأما الكفارُ فإنهم يُحشرونَ إلى النارِ على وجوهِهم عُميًا، وبُكمًا، وصُمًا.
قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ﴾ [الإسراء: 97].
وقَالَ تَعَالَى: ﴿ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 34].
ورَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ يُحْشَرُ الكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟
قَالَ: «أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟!».
قَالَ قَتَادَةُ: «بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّنَا»[25].
عباد الله : صلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله؛ كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56]
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد
وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحمي حوزة الدين يا رب العالمين
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتبع رضاك يا رب العالمين
اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا يا رب العالمين
اللهم وفِّق ولي أمرنا وولي عهده لرضاك، وأعنهما على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم احفظ جنودنا، واحم حدودنا وثغورنا ، يا رب العالمين، واحفظ رجال أمننا يا رب العالمين
اللهم اشف مرضاهم، وارحم موتاهم، وتقبلهم في الشهداء يا ربَّ العالمينَ
اللهم بارك لمن حَضَرَ معنا صلاتنا هذه في علمه وعمره وعمله، وبارك له في بدنه وصحته وعافيته، وبارك له في أهله وولده، وبارك له في ماله ورزقه، واجعله يا ربنا مباركًا موفقًا مسددًا أينما حَلَّ أو ارتحل
اللّهم آت نفوسنا تقواها، زكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها
اللّهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر
اللّهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
ربنا إن ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
القبر والبعث والحشر يوم القيامة - الشيخ خالد الجهني
الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
فحَدِيثُنَا معَ حضراتِكم في هذه الدقائقِ المعدوداتِ عن «القبر، والبعث، والحشر يوم القيامة».
واللهَ أسألُ أن يجعلنا مِمَّنْ يستمعونَ القولَ، فَيتبعونَ أَحسنَهُ، أُولئك الذينَ هداهمُ اللهُ، وأولئك هم أُولو الألبابِ.
اعلموا أيها الإخوة المُؤمنونَ أنه ممَّا يجبُ علينا الإيمان به: الإيمانُ بسؤالِ الملكينِ في القبر، وهما المنكرُ والنكيرُ، يسألانِ العبدَ ثلاثةَ أسئلةٍ:
1- مَنْ ربُّكَ؟
2- مَا دينُكَ؟
3- منِ الرسولُ الَّذِي أُرسلَ إليكَ؟
روى التِّرمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قُبِرَ المَيِّتُ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: المُنْكَرُ، وَلِلْآخَرِ: النَّكِيرُ، فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ مَا كَانَ يَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ، ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ، نَمْ، فَيَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي، فَأُخْبِرُهُمْ، فَيَقُولَانِ: نَمْ كَنَوْمَةِ العَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَبْعَثَهُ اللهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ، فَقُلْتُ مِثْلَهُ، لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ، فَيُقَالُ لِلأَرْضِ: التَئِمِي عَلَيْهِ، فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ، فَتَخْتَلِفُ[1] فِيهَا أَضْلَاعُهُ، فَلَا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ»[2].
ويجبُ علينا الإِيمانُ بِنعيمِ القَبرِ وعذابِهِ، النعيمِ لأهلِ الطاعةِ، والعذابِ لمن كان مستحقًّا له من أهلِ المعصيةِ، والفجورِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27].
ورَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالعَشِيِّ[3]، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ[4] حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ»[5].
ورَوَى البُخَارِيُّ عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أُقْعِدَ المُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ، ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27]»[6].
وقال عمر بن عبد العزيز: "الدنيا سريعة الفناء، قريبة الانقضاء، تعد بالبقاء، ثم تخلف في الوفاء، وتنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة وهي سائرةٌ سيرًا عنيفًا، ومرتحلةٌ ارتحالاً سريعًا".
أيها الإخوة في الله: لا بد أن نتذكر ذلك اليوم الذي تتوقف فيه الابتسامات والقهقهات، وتلك الحفرة التي يتوقف فيها الجدال والصرخات، ويتوقف فيها العناد والكبرياء، والإخلاص والرياء، ويتحول الوجه الفاتن، واليد الظالمة، واللسان الكذوب، والعين الخائنة، والقلب القاسي، إلى جماجمَ وأعظمٍ نخرة، ولا يبقى إلا العمل الذي قدمه صاحب القبر.
هناك تزول أسئلة الدنيا: من أنت وماذا تملك، وإلى من تنتسب؟! ولا يبقى إلا سؤال واحدٌ مهم: ما عملك الصالح؟! ما عملك الذي يحيل قبرك إلى روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار؟! يقول رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-: "يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله". رواه مسلم.
معاشر المسلمين: إننا نريد تذكر الآخرة لكي نعمل لها، إن التذكر مطلوب شرعًا ليكون موصلاً إلى العمل الذي هو من أسباب النجاة من النار، ولا ينفع البكاء والندم بتذكر الموت والآخرة إذا لم يقترنا بالعمل، لا بد من العمل، لا بد من العمل للآخرة، لقد أكثرنا من العمل لدار الغرور فلا بد أن نعمل للآخرة:
يـا بـاني الدار الـمعد لها *** ماذا عملت لدارك الأخرى
ومـمهد الفرش الـوثيرة لا *** تغفل فراش الرقدة الكبرى
أتراك تحصي من رأيت من الـ *** أحياء ثـم رأيتهم موتى
فلـتلحقن بعـرصة الـموتى *** ولتنزلن مـحلة الـهلكى
وإذا رأيت القبر -يا عبد الله-، فتذكر أن له منظرًا فظيعًا، وظلمة شديدة، وضمة وضغطة.
أما المنظر الفظيع والهول العظيم، فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما رأيت منظرًا قط إلا القبر أفظع منه". رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن عثمان وحسنه الألباني.
وأما الظلمة الشديدة، فقد قال -عليه الصلاة والسلام- بعد أن صلى على قبر المرأة التي كانت تَقُمّ المسجد: "إن هذه القبور مليئة ظلمة على أهلها، وإن الله -عز وجل- منورها لهم بصلاتي عليهم". متفق عليه.
وأما الضمة والضغطة، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ". رواه أحمد وصححه الألباني، وعند النسائي عَنْ ابْنِ عُمَرَ أن رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ في سعد: هَذَا الَّذِي تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ، وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَشَهِدَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ، لَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ".
قال بعض العلماء: ضَغْطَة الْقَبْر: اِلْتِقَاء جَانِبَيْهِ عَلَى جَسَد الْمَيِّت، ولا يَنْجُو مِنْها صَالِح وَلا طَالِح غَيْر أَنَّ الْفَرْق فِيهَا: دَوَامُ الضَّغْط لِلْكَافِرِ، وَحُصُوله لِلْمُؤْمِنِ فِي أَوَّل نُزُوله إِلَى قَبْره ثُمَّ يَعُود إِلَى الانْفِسَاح لَهُ.
إخوتي في الله: ليتصور الواحد منا الفرق بين ليلتين، الليلة الأولى يجلس فيها بين أهله وأبنائه يلاعبهم ويداعبهم، والليلة التي تليها يدفن فيها في قبره وحيدًا منفردًا، لا يدري ما يكون حاله فيه، أمن المنعمين أم من المعذبين؟!
فارقت موضع مرقدي يومًا *** ففارقنـي السـكـون
الـقبـر أول لـيلـةٍ بالله *** قل لـي مـا يكـون
أول ليلة في القبر، بكى منها العلماء، وشكا منها الحكماء، لا أنيسَ فيها ولا جليس، ولا مناصبَ ولا أموال، ولا زوجةَ ولا أطفال، بل إن أقرب الناس إليك الذي كان يقبلك ويعانقك ويهرع بك إلى الطبيب لأدنى علة، هو من يسعى ويجدُّ مسرعًا في دفنك وإهالة التراب عليك.
متى نراجع حساباتنا مع الله -يا عباد الله-؟! (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 99، 100].
كلا!! الآن تراجع حساباتك؟! الآن تتوب من ذنوبك؟! ألم تكن مدبرًا عن الصلاة والمساجد؟! معرضًا عن القرآن منتهكًا لحدود الرحمن؟! آلآن تتوب؟! أين أنت قبل ذلك؟!
والله لو عاش الفتى في عمره *** ألفًا مـن الأعوام مالكَ أمرِه
متنعـمًا فيها بكـل لذيذة *** متلذذًا فيها بسكنى قصـره
لا يعتريه الهم طولَ حـياته *** كلا ولا تَرِدُ الهموم بصدره
ما كان ذلك كلُه في أن يفي *** فيهـا بأولِ ليلـةٍ في قبره
اللهم ارزقنا عملاً صالحًا نفوز به، اللهم ارزقنا عملاً نرحم به فيزحزحنا ربنا عن النار ويدخلنا الجنة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------------------------------
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد
وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحمي حوزة الدين يا رب العالمين
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتبع رضاك يا رب العالمين
اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا يا رب العالمين
اللهم وفِّق ولي أمرنا وولي عهده لرضاك، وأعنهما على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم احفظ جنودنا، واحم حدودنا وثغورنا ، يا رب العالمين، واحفظ رجال أمننا يا رب العالمين
اللهم اشف مرضاهم، وارحم موتاهم، وتقبلهم في الشهداء يا ربَّ العالمينَ
اللهم بارك لمن حَضَرَ معنا صلاتنا هذه في علمه وعمره وعمله، وبارك له في بدنه وصحته وعافيته، وبارك له في أهله وولده، وبارك له في ماله ورزقه، واجعله يا ربنا مباركًا موفقًا مسددًا أينما حَلَّ أو ارتحل
اللّهم آت نفوسنا تقواها، زكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها
اللّهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر
اللّهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
ربنا إن ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
عِبَادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ... فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
دعوات يوسف عليه السلام - الشيخ سامي حافظ
الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أيها المؤمنون: بعد قصة طويلة مليئة بالأحداث والوقائع والمصيبات، امتدت لسنوات، تنقل فيها يوسف عليه السلام من محنة إلى محنة، ومن مصيبة إلى أخرى، ومن همٍّ إلى غمٍّ، بعدها أتم الله ليوسف عليه السلام كثيرًا من النعم، أولها تبرئة من اتهام، ثم لحقها منصب وجاه، ورفعة ومال، ومكانة وارتفاع، وكانت نهايتها عفوًا عن الزلات، واجتماعًا بالأبوين والأهل والأقرباء، بعد ذلك كله، وفي نهاية القصة، سأل يوسف عليه السلام ربه مقرًّا بنعمته عليه بأن جعله وزيرًا على الخزائن، وتعليمه تأويل الرؤى، مثنيًا عليه بأنه فاطر السماوات والأرض، وختمها بدعوات طيبات أن يتوفاه الله مسلمًا ويلحقه بالصالحين من الأنبياء والمرسلين؛ فقال تعالى عنه: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101].
أيها الكرام: لنا مع هذه الدعوات المباركات التي دعا بها يوسف عليه السلام ربه في نهاية القصة عِبرٌ ووقفاتٌ:
أولى تلك الوقفات، فقد بدأ يوسف دعاءه بقوله: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ﴾ [يوسف: 101]، فإن من يتتبع دعاء الأنبياء، يَرَ أن كثيرًا من أدعيتهم في القرآن بدأت بقولهم: "رب، ربنا"، ولعل السبب في ذلك؛ لأن معنى الرب المربي، فهو يربي عباده الصالحين، وفي ذلك بيان ضعف العبد أمام خالقه وسيده ومولاه.
أيها المؤمن: لا تجعل نشوة الفرح بالانتصار، أو المنصب، أو المال، تنسيك شكر نعمة ربك عز وجل عليك، فالمتواضع كلما زاد رفعة ومكانة، ازداد تواضعًا لربه وللخلق، وكلما زادت نِعَمُ الله عليه وتوالت، ازداد شكرًا لربه واعترافًا بها، ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ﴾ [يوسف: 101]، فعلى العبد أن يتذكر ويستشعر نِعَمَ الله عليه دائمًا وأبدًا؛ صغيرة وكبيرة، فنِعَمُهُ لا تُعَدُّ ولا تُحصى، وخاصة بعض النعم التي تعوَّد عليها بسبب كثرتها ودوامها، كنعمة الإسلام، والمال، والصحة، والعافية، والأمن، والأولاد وغيرها كثير، وأن يشكر ربه ويحمده عليها، فبالشكر تدوم النعم، وبالكفر تزول وتنتهي، وعلى المؤمن أن يعلم قدر الدنيا وحقيقتها، فيجعلها في يديه، ويسخرها في طاعة ربه، ولا يدخلها إلى قلبه، فإن دخلت قلبه، أفسدته، وأغرته، وأسقطته في وحْلِها.
أيها المؤمنون: ثم قال يوسف عليه السلام: ﴿ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [يوسف: 101]، على المرء أن يبدأ دعاءه بالثناء على ربه بأسمائه وصفاته، وأن يدعوه بها، فربنا يحب منا أن نثني عليه ونذكره بأسمائه وصفاته، فندعو بأسمائه، ومنها الكبير المنان، الرزاق الرحيم، الرحمن اللطيف، العزيز الجبار، ندعو بكل اسم بما يوافقه من دعاء.
ثم قال يوسف عليه السلام: ﴿ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾ [يوسف: 101]، فمهما بلغ العبد من منصب وجاه ومال، فهو محتاج إلى ربه الولي الناصر له في الدنيا والآخرة جل وعلا، فلا توفيق ولا فلاح ولا نجاح، إلا بتوفيق الله وإرادته.
كَانَ مِنْ هَذَا الشَّابِّ، وَبِمَ أَجَابَ؟
(قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)[يوسف:23]، لقد نَطَقَ بِمَا لَمْ تَكُنْ تَتَوَقَّعُهُ، وَأَجَابَ بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي حُسْبَانِهَا، فَقَولُهُ (مَعَاذَ اللهِ) يَحْمِلُ مَعْنَى رَفْضِهِ الْقَاطِعِ لِدَعْوَةِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، كَمَا يَحْمِلُ مَعْنَى الْتِجَائِهِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَطَلَبِ الْمَعُونَةِ مِنْهُ لِيَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ، فَالْفَاحِشَةُ ظُلْمٌ، كَمَا أَنَّ الْخِيَانَةَ ظُلْمٌ.
وَكَأَنَّ يُوسُفَ بِرَدِّهِ هَذَا ذَكَّرَ الْمَرْأَةَ أَوَّلاً بِاللهِ، ثَمَّ نَبَّهَهَا إِلَى قُبْحِ الْخِيَانَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهَا عَاقِبَةَ الظُّلْمِ وَشُؤْمَهَ، فَهُوَ مَعَ رَفْضِهِ الْقَاطِعِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ بَعْدَ ذَلِكَ: (وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ)[يوسف:32].
مَعَ ذَلِكَ الرَّفْضِ كَانَ لَهَا مُذَكِّرًا وَمُنَبِّهًا، لَكِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي أَخَذَتْهَا دَهْشَةُ الرَّفْضِ، أَفَاقَتْ عَلَى حَالِ سَيِّدَةٍ مُبْتَذَلَةٍ، وَعَزِيزَةٍ مُتَذَلِّلَةٍ: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)[يوسف:24]؛ ففرَّ هارباً وإلى البابِ مسارعاً (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)[يوسف:25-28].
فَيَا لَهُ مِنْ مَشْهَدٍ عَظِيمٍ –إِخْوَةَ الإِيمَانِ– جَمَعَ فِيهِ الْقُرْآنُ مَعَ دِقَّةِ الْوَصْفِ رَوْعَةَ الأَدَبِ. وَمَا أَعْظَمَ هَذَا الشَّابَّ الَّذِي كَانَ مَعَ قُوَّةِ الإِغْرَاءِ، وَتَوَفُّرِ الدَّوَاعِي، رَاسِخًا بِإِيمَانِهِ، شَامِخًا بِطَهَارَتِهِ!
لَقَدْ كَانَ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلامُ- بِإِيمَانِهِ هُوَ الْعَزِيزَ فِي قَصْرِ الْعَزِيزِ، قَدْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْقَصْرِ غُلامًا، لَكِنَّهُ كَانَ فِي الطُّهْرِ إِمَامًا، وَلَئِنْ غُلِّقَتْ عَلَيْهِ الأَبْوَابُ؛ فَإِنَّ بَابَ قَلْبِهِ مَفْتُوحٌ لِهُدَى رَبِّهِ، فَمَا ضَرَّهَ مَا أُغْلِقَ بَعْدَ إِكْرَامِهِ بِمَا فُتِحَ.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الْفِتْنَةَ لَمْ تَقِفْ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَشْهَدِ، وَالْمُؤَامَرَةَ لَمْ تَنْقَطِعْ، فَهُنَاكَ مَشْهَدُ النِّسْوَةِ اللاتِي جَمَعَتْهُنَّ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ)[يوسف:31-32].
هُنَا أَدْرَكَ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلامُ- أَنَّ الْفِتْنَةَ أَتَتْهُ بِجَحَافِلِهَا، وَنَسَجَتْ حَوْلَهُ حَبَائِلَهَا، فَخَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ تَمِيلَ إِلَى مُسْتَنْقَعِهَا، وَخَشِيَ عَلَى طَهَارَتِهِ أَنْ تُدَنَّسَ بِدَنَسِهَا، فَهُوَ شَابٌّ يَشْعُرُ بِمَا يَشْعُرُ بِهِ الشَّبَابُ، وَهُوَ رَجُلٌ تَمِيلُ نَفْسُهُ إِلى مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ نُفُوسُ الرِّجَالِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ إِلاَّ أَنِ الْتَجَأَ إِلَى رَبِّهِ -سُبْحَانَهُ-، وَمَنِ الْعَاصِمُ مِنَ الْمَزَالِقِ سِوَاهُ؟: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)[يوسف: 33].
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ مَعْشَرَ الشَّبَابِ، اتَّقُوا اللهَ فِي شَبَابِكُمْ، وَاجْعَلُوا أَعْظَمَ عَلاقَةٍ عَلاقَتَكُمْ بِاللهِ، فَلِكُلِّ شَيْءٍ عِوَضٌ، وَلَيْسَ للهِ إِنْ فَارَقْتُمْ مِنْ عِوَضٍ، وَلْنَلْجَأْ إِلَى اللهِ فَهُوَ المُعِيذُ الْمُعِينُ (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)[يوسف:24].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------------------------------
الاستجابة لله ولرسوله ﷺ - الشيخ صالح الفوزان
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، مَنَّ على المؤمنين ببعثِه النبيَّ الأمين، فقال -تعالى-: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران : 164]. وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريكَ لهُ مُخلصاً له الدين، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
أما بعدُ: أيُّها الناسُ: اتقوا الله -تعالى-، واستمعوا لندائه، واستجيبوا لأوامره، واجتنبوا ما ينهاكم عنه لعلكم تُرحمون، يقولُ الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال:20-24].
في هذه الآيات الكريمة: يأمر الله بطاعتهِ، وطاعةِ رسولهِ، والاستجابةِ له ولرسوله عند سماعِ الأوامر والنواهي الصادرة عنه وعن رسوله.
وينَهْى عن التشبُّهِ بالكافرين والمنافقين في عدمِ الطاعة، والاستجابة لله ولرسوله، فإنَّ الكفار أَبَوا أن يسمَعُوا كلامَ الله، كما قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت:26].
واليهود: (قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) [البقرة:93].
والمنافقون: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [الأنفال:22].
فهم يُظهرون أنهم قد سَمِعُوا واستجابوا، وهم ليسوا كذلك، فهم يسمَعُون بآذانِهم ولا يسمعون بقلوبِهم.
ثم أخبر سبحانه: أنَّ هذه الأصناف من بني آدم هم شرُّ الخَلْقِ والخليقة، فقال سبحانه: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [الأنفال:22].
أي: الصمُّ عن سماع الحق، البُكْمُ عن فهمه، والنطق به.
ووصفهم بأنهم: (لَا يَعْقِلُونَ) أي: ليست لهم عقولٌ صحيحة يفكرون بها في العواقب، وإنما عقولُهم لا تعدو التفكيرَ بحاضرهم الدنيوي، وملاذهم العاجلة، فهم كالبهائم التي لا هَمَّ لها إلا فيما تأكلُ في بطونها، ولا تفكر في مستقبل، ولا تستعدُّ لحياة أخرى، لكنهم شرٌّ من البهائم؛ لأنَّ البهائم مطيعة لله فيما خلقها له، وهؤلاء خُلقوا للعبادة فكَفَرُوا، ولهذا قال سبحانه: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان:44].
عبادَ الله: إنَّه مطلوب من المسلم: أن يستمعَ إلى كلام الله إذا يُتلى، والاستماعُ إلى أحاديث رسوله إذا تُروى استماعَ تفهُّم، وإدراكٍ لمطالبهما، ثم بعد الاستماع والفهم لكلام الله، وكلام رسوله، يتَّجِهُ المسلم إلى العمل بهما، والاستجابة لمطالبهما، وإلاَّ فإن الاستماعَ والفَهْمَ من غير عمل يكونان حجةً على صاحبهما يوم القيامة، قال الله -تعالى-: (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) [المؤمنون:105].
وقال تعالى: (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [الزمر:59].
واليوم -يا عباد الله- كم نقرأُ ونسمَعُ من الآيات والأحاديث، ونُعْرِضُ عن العمل بما نسمع، مع أنَّ ما نسمعُه ولا نعملُ به، سيكون حجةً علينا يوم القيامة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والقرآنُ حجةٌ لك أو عليك".
ولننظر ما مدى استجابتِنا لنداءات الله المتكررة والمتنوعة في كتابه: يا أيها الناس، يا بني آدم .. يا أيها الذين آمنوا.. يا عباد..
قال بعض السلف: "إذا سمعتَ الله يقولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأَصْغِ لها سمعَك، فإنه خيرٌ تؤمَرُ به، أو شر تُحذَّرُ منه".
وقد أخبر سبحانه: أنَّ ما يأمر به، ويدعو إليه فيه حياةُ القلوب التي تترتب عليها الحياةُ الكاملة السعيدة للأبدان في الدنيا والآخرة، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال:24].
قال بعضُ المفسرين: (لِما يُحْيِيكُم) هو القرآن.
ولما حصلَ الخللُ في الاستِجابةِ لله ورسولِه مُنِعوا إجابة الله، ووُكِلوا إلى أنفسهم، ومن وكلَه الله إلى نفسِه خسِرَ وضعُفَ وذَلَّ.
وفي سُرعة الاستجابة سطَّر الأوائِلُ مواقِفَ خالِدَة يتلقَّى أحدُهم الأمرَ أو النهي، فيستجيبُ فورًا دون تردُّدٍ، يُحوِّلُه إلى واقعٍ ملموسٍ وفعلٍ محسوسٍ. وهذا يُنبِئُ عن عُمق إيمانٍ وصدِقِ إذعانٍ.
يقول أنسٌ -رضي الله عنه-: "بينما أنا أُديرُ الكأسَ على أبي طلحَة وفلان، فسمعتُ مُنادِيَ يُنادِي: ألا إن الخمرَ قد حُرِّمَت". قال: "فما دخلَ علينا ولا خرجَ منا خارِجٌ حتى أهرَقْنا الشرابَ، وكسَرْنا القِلال، وتوضَّأَ بعضُنا واغتسلَ بعضُنا، وأصَبْنا من طِيبِ أمِّ سُلَيم، ثم خرَجنا إلى المسجِد فإذا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 90]".
وتقول عائشةُ -رضي الله عنها-: "إن لنساءِ قُريشٍ لفَضلاً، وإني -والله- ما رأيتُ أفضلَ من نساءِ الأنصار، أشدَّ تصديقًا لكتاب الله، ولقد أُنزِلَت: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) [النور: 31]، فانقلَبَ رجالُهنَّ إليهنَّ يتلُون ما أنزلَ الله إليهنَّ فيها، ويتلُو الرجلُ على امرأتِه وابنتِه وأختِه وعلى كل ذي قرابَته، فما منهنَّ امرأةٌ إلا قامَت إلى مِرطِها المُرحَّل، فاعتجَرَت به تصديقًا وإيمانًا بما أنزلَ الله في كتابِه، فأصبَحن وراءَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُعتجِراتٍ كأنَّ على رُؤوسهنَّ الغِربان".
ورأى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- خاتمًا من ذهبٍ في يدِ رجُلٍ، فنزعَه وطرحَه وقال: "يعمِدُ أحدُكم إلى جمرةٍ من نارٍ فيجعلُها في يدِه". فقيل للرجُّلِ بعدما ذهبَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: خُذ خاتمكَ وانتفِع به. فقال: لا والله، لا آخُذُه أبدًا وقد طرحَه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-.
عباد الله: الحجُّ شُرِع استجابةً لله، جاء الحُجَّاج من كل فجٍّ عميقٍ استِجابةً لله ورسولِه، والاستجابةُ في الحجِّ في كل منسَكٍ وموقِفٍ، هؤلاء وفدُ الله ترَكُوا الأهلَ والمالَ والأوطانَ، دعاهُم ربُّهم للطوافِ بالبَيتِ فاستَجابُوا، ودعاهُم للحَجَر الأسوَد وتقبيلِه أو الإشارَة إليه فاستَجابُوا، مع علمِهم أنه حجرٌ لا يضرُّ ولا ينفع.
دعاهم للخُروج لمِنَى، والمبيت بها، وأعلَنوا الاستِسلام لله وحُكمِه، لا يقصِدُون بذلك رِياءً ولا سُمعةً، الإخلاصُ شِعارُهم، والمُتابَعةُ دِثارُهم، "لبَّيك اللهم لبَّيك" هي رمزُ الاستِجابة الكامِلة؛ أي: أفعلُ هذا تلبيةً لدعوتك، واستِجابةً لأمرك، واقتِداءً بنبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- القائل: "الحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة". متفق عليه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------------------------------
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي منَّ علينا وهدانا، أحمدُه -سبحانه- وأشكرُه على ما حبانا وأولانَا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه وسلَّم.
أما بعد: فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
وللاستِجابةِ علامات، أبرزُها: إقامةُ الصلاة، والشُّورى في الأمر، والإنفاقُ في سبيل الله، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [الشورى: 38].
الكِبرُ وحبُّ الرِّياسَة والانغِماسُ في التَّرَف من مُعوِّقات الاستِجابة، واتِّباعُ الهوَى يصدُّ عن الاستِجابة، قال الله تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) [القصص: 50].
إخوة الإسلام: من استجابَ لله نالَ الحُسنى، ومن أعرضَ وعصَى ولم يستجِب فبئسَ المآل، ولن يُغنِيَ عنه جمعُه ولا مالُه ولو أتَى بمِلءِ الأرض ذهبًا ومثلِه معه ليفتدِيَ به، قال الله تعالى: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [الرعد: 18].
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد.
وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحمي حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا يا رب العالمين
اللهم وفِّق ولي أمرنا وولي عهده لرضاك، وأعنهما على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم احفظ رجال أمننا و جنودنا، واحم حدودنا وثغورنا يا رب العالمين
اللهم اشف مرضاهم، وارحم موتاهم، وتقبلهم في الشهداء يا ربَّ العالمينَ.
اللهم بارك لمن حَضَرَ معنا صلاتنا هذه في علمه وعمره وعمله، وبارك له في بدنه وصحته وعافيته، وبارك له في أهله وولده، وبارك له في ماله ورزقه، واجعله يا ربنا مباركًا موفقًا مسددًا أينما حَلَّ أو ارتحل.
اللّهم آت نفوسنا تقواها، زكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللّهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.
اللّهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
ربنا إن ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وقوة المسلمين أبداً إنما هي في تماسكهم وترابطهم، وإنما يكون فشلهم بتفرقهم، وانفراط عقدهم، يظهر ذلك جلياً واضحاً في قول الحق -سبحانه وتعالى-: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الأنفال: 46].
أيها المسلمون: الصلح بين الناس من أجلّ الأخلاق الإسلامية التي حرص الإسلام على تربية أتباعه عليها، إذ به يُرفع الخلاف، ويقطع النزاع الذي ينشأ بين المتعاملين مادياً أو اجتماعياً، ويعود بسببه الود والإخاء بين الناس، لكونه مرضياً لجميع الأطراف في الغالب، قاطعاً دابر الخصام بينهم، محققاً للأخوة التي نشدها لهم الشرع الحنيف، ووصفهم بها في قول الله -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[الحجرات: 10].
وفي مثل هذا كتب عمر بن الخطاب إلى قاضيه أبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- يقول: "رُدّ الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن".
ولهذا -عباد الله- عني القرآن عناية فائقة بالصلح بين الناس أمراً به، وترغيباً فيه، وتنويهاً به، وبأهله، قال الله -تعالى-: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114].
ووعد القائمين بالإصلاح بين الناس بالمغفرة والرحمة: (وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا) [النساء: 129].
وهذا كله دليل على علو منزلته في الدين، لما له من أثر عظيم في إصلاح ذات البين الذي لطالما تشوف الشارع الحكيم إليه في المجتمعات الإنسانية.
ولقد بين المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ما للصلح بين الناس من الأجر العظيم بقوله: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة".
ومن أجل هذا -عباد الله- كان الإصلاح بين الناس من أبرز أخلاق الرسل صفوة الخلق -عليهم الصلاة والسلام-، كما قال سبحانه وتعالى على لسان نبيه شعيب -عليه السلام-: (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)[هود: 88].
وقال على لسان نبيه موسى وهو يخاطب أخاه هارون -عليهما السلام-: (وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف: 142].
فالإصلاح بين الناس من أبرز صفات الأنبياء المرسلين -عليهم الصلاة والسلام-، وذلك لكمال أخلاقهم، وفطنتهم، ومعرفتهم العريقة بأحوال أممهم، ولنا فيهم أعظم القدوة -يا عباد الله- ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من أولئك الرسل الذين كانوا بهذه المثابة من التوفيق بين الناس، وإصلاح ذات بينهم في كل مراحل حياته، قبل البعثة وبعدها.
لما هاجر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وجد ساكنيها من الأوس والخزرج كأشد ما يكون عليه التنافر والشقاق، لما كانوا عليه من الحمية الجاهلية التي كانت تولد بينهم الحروب الطاحنة على أتفه الأسباب، فقد جاء نقباؤهم إليه يبايعونه عند العقبة، وهم يقولون بلسان واحد: "إنا قد تركنا قومنا والقوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنَقدُم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك، فلا أجلّ ولا أعزّ منك".
فلما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم، ودخلوا جميعاً في الإيمان، اصطلحوا، وزال ما بينهم من البغضاء والتنافر، وأصبحوا بنعمة الله إخواناً.
وما كان شملهم ليلتئم لولا وجود النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرهم، والنور الذي أتى به في أفئدتهم، يتمثل ذلك في قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ممتناً عليهم بهذه النعمة، لما بدر من بعض صغار الأنصار ما يوحي بنسيانها: "يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، ومتفرقين فجمعكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟".
وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: 63].
فقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين قلوب الأوس والخزرج التي تنافرت أعواماً، وتقاتلت أزماناً، وملئت بالضغائن والأحقاد الناشئة عن العصبية القبلية، وهذا من أبرز معجزاته صلى الله عليه وسلم، فقد كان أحدهم يُلطَم اللطمة فيقاتل عليها حتى يستقيدها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بين قلوبهم حتى قاتل الرجل أباه وأخاه، بسبب الانضمام تحت لواء هذا الدين الحنيف.
فعدل الرجل عن يمينه، واستجاب لتذكير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، طاعة لله ورسوله، واستجابة لداعي الحق.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-؛ فمن أراد الثواب الجزيل الذكر الجميل وراحة القلب فليحلم على الجاهل، وليعفو عن المعتدي وليقبل الصلح (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشورى:4].
عباد الله : صلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله؛ كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56]
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد
وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحمي حوزة الدين يا رب العالمين
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتبع رضاك يا رب العالمين
اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا يا رب العالمين
اللهم وفِّق ولي أمرنا وولي عهده لرضاك، وأعنهما على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم احفظ جنودنا، واحم حدودنا وثغورنا ، يا رب العالمين، واحفظ رجال أمننا يا رب العالمين
اللهم اشف مرضاهم، وارحم موتاهم، وتقبلهم في الشهداء يا ربَّ العالمينَ
اللهم بارك لمن حَضَرَ معنا صلاتنا هذه في علمه وعمره وعمله، وبارك له في بدنه وصحته وعافيته، وبارك له في أهله وولده، وبارك له في ماله ورزقه، واجعله يا ربنا مباركًا موفقًا مسددًا أينما حَلَّ أو ارتحل
اللّهم آت نفوسنا تقواها، زكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها
اللّهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر
اللّهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسل
الإصلاح بين الناس - الشيخ صالح بن حميد
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ... آل عمران:102،
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ... النساء:1،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ... الأحزاب:70-71.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
أيها المسلمون: أصلحوا ذات بينكم؛ فالإصلاح عنوان الإيمان في الإخوان: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات:10].
الإصلاح مصدر الطمأنينة والهدوء ومبعث الاستقرار والأمن، وينبوع الألفة والمحبة.
أيها الإخوة، لقد أقضت مضاجع القضاة القضايا، وامتلأت كثيراً من السجون بالبلايا، ناهيك بما في مراكز الشرطة وأسرة المشافي من المآسي. بل إن مشكلات الأمة الكبرى في الصومال وأفغانستان، ومواقع من ديار المسلمين أخرى تحتاج كل الحاجة إلى الصالحين المصلحين.
ألا ينبري خيرون بمساعي حميدة هنا وهناك؛ ليطفئوا نار الفتن وينزعوا فتيل اللهب؟!
إن التنازع مفسد للبيوت والأسر، مهلك للشعوب والأمم، سافك للدماء، مبدد للثروات (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:46]
بالخصومات والمشاحنات تنتهك حرمات الدين، ويعم الشر القريب والبعيد. ومن أجل ذلك سمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فساد ذات البين بالحالقة، فهي لا تحلق الشعر ولكنها تحلق الدين.
إن الأمة تحتاج إلى إصلاح يدخل الرضا على المتخاصمين، ويعيد الوئام إلى المتنازعين. إصلاح تسكن به النفوس، وتأتلف به القلوب. إصلاح يقوم به عصبة خيرون شرفت أقدارهم، وكرمت أخلاقهم، وطابت منابتهم، وإنهم بمثل هذه المساعي الخيرة يبرهنون على نبل الطباع وكرم السجايا.
فئات من ذوي الشهامة من الرجال والمقامات العلية من القوم، رجال مصلحون ذو خبرة وعقل وإيمان وصبر، يخبرون الناس في أحوالهم ومعاملاتهم، حذاق في معالجة أدوائهم، أهل إحاطة بنفوس المتخاصمين وخواطر المتباغضين والسعي بما يرضي الطرفين.
أيها الإحبة: إن سبيل الإصلاح عزيمة راشدة، ونية خيرة، وإرادة مصلحة. وبريد الإصلاح، حكمة المنهج، وجميل الصبر، وطيب الثناء، سبيل وبريد يقوم به لبيب تقي يسره أن يسود الوئام بين الناس: (وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً) [النساء:129].
أيها الإخوة: وللإصلاح فقه ومسالك دلت عليها نصوص الشرع وسار عليها المصلحون المخلصون.
إن من فقه الإصلاح النية، وابتغاء مرضاة الله، وتجنب الأهواء الشخصية والمنافع الدنيوية. إذا تحقق الإخلاص حل التوفيق وجرى التوافق وأنزل الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد.
أما من قصد بإصلاحه الترؤس والرياء وارتفاع الذكر والاستعلاء فبعيد أن ينال ثواب الآخرة، وحري ألا يحالف التوفيق مسعاه (وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء:114].
ومن فقه الإصلاح سلوك مسلك السر والنجوى. فلئن كان كثير من النجوى مذموماً فإن ما كان من صدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فهو محمود مستثنى: (لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء:114].
أيها الإخوة: وهذا فقه في الإصلاح دقيق، فلعل فشل كثير من مساعي الصلح ولجانه بسبب فشو الأحاديث، وتسرب الأخبار، وتشويشات الفهوم مما يفسد الأمور المبرمة والاتفاقيات الخيرة.
إن من الخير في باب الإصلاح أن يسلك به مسلك النجوى والمسارة؛ فمن عرف الناس وخبر أحوالهم لاسيما فيما يجري بينهم من منازعات وخصومات وما يستتبع ذلك من حبٍ للغلبة وانتصار للنفس أدرك دقة هذا المسلك وعمق هذا الفقه.
أبواب مفاتيح الرزق - الشيخ خالد الباتلي
الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
عباد الله: إن مما يشغل بالَ كثيرٍ من الناس قضيةَ المستوى المادي والدخلِ الشهري، وكلٌّ يتمنى أن يزيد رزقُه ويكثر دخلُه، ولا سيما إذا تغيرت الأحوال، وزادت الأعباء، فيحسب ويقدر، ويبحث عن أبواب وفرص لزيادة الدخل، وتعويض النقص.
ولا مانع أن يبحث المرء عما يزيد دخلَه ما دام مباحا، لكننا -في خضم الحياة المادية- نغفلُ عن أبواب مشرعة من أبواب الرزق، ومفاتيحَ تجلبُه وتزيدُه، جاء بها الإسلام، فدعونا نعرض بعضها، ونتعرف عليها، ثم نعمل بها تقربا إلى الله وطاعة.
المفتاح الأول: الاستغفار والتوبة، قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً) [نوح: 10-12].
قال الشعبي -رحمه الله-: "خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فأمطروا، فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟! فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر" ثم قرأ الآية السابقة.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا، ومن كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب”(رواه أبو داود).
فإذا ضاقت الأرزاق فارجعوا إلى الرزاق، تائبين مستغفرين.
وفي أخبار الناس قصص عجيبة في بركة الاستغفار وأثره في الدنيا قبل الآخرة.
المفتاح الثاني: الإنفاق في وجوه الخير، قال الله تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شيء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ) [سبأ: 39]، وقال تعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: “هل تُنصرون وترزقون إلاّ بضعفائكم”
عبد الله: أنفق ينفق عليك، فَمَا أَمْسَكَ مَـمْسِكٌ إِلَّا لِسُوءِ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ، وَضَعْفِ يَقِينِهِ بِـخَالِقِهِ. (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 268].
ابحث عن الأرملة والمسكين، والفقير واليتيم، فرج كربة، ويسر على معسر، وما أكثر أبواب الخير ووجوه البر.
المفتاح الثالث: صلة الأرحام، قال: “من سره أن يبسط الله له في رزقه وينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه”(متفق عليه). وقال -صلى الله عليه وسلم-: “إن أعجل الطاعة ثوابا: صلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا”(رواه ابن حبان).
صلة الرحم توسع الأرزاق، وتطيل الأعمار.
المفتاح الرابع: تقوى الله تعالى، قال الله -تعالى-: (مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)، وقال سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
ومن وصايا لقمان لابنه: "يا بني اتخذ تقوى الله تجارة يأتك الربح من غير بضاعة".
المفتاح الخامس: التوكل على الله
وحَرَمَ منه الكافرين؛ (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)[الأعراف: 50].
والله -سبحانه- هو الغني, لا يحتاج إلى أحد؛ بل العِباد هم المحتاجون إليه, قال -سبحانه-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)[الذاريات: 56-58]؛ فلا يريد من أحدٍ رِزقاً ولا إطعاماً, وجميعُ الخلق فقراء إليه، في كل حوائجهم ومطالبهم؛ ولذا قال: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ)؛ أي: كثير الرِّزق، (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)؛ فمِنْ قُوَّتِه -تعالى- أنه أوْصَلَ رِزْقَه إلى جميع العالَم, وهو غنِيٌّ عنهم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[فاطر: 15].
ولو أنَّ العباد جميعاً سألوا اللهَ -تعالى- فأعطاهم؛ لم يُنْقِصْ ذلك من مُلْكِه شيئاً؛ كما في الحديث القدسي: "يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي, فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ"(رواه مسلم).
وكثرة الرزق في الدنيا لا تدل على محبة الله -تعالى-, ولكنَّ الكفارَ لجهلهم ظنوا ذلك؛ (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)[سبأ: 35, 36], يظن كثير من الكفار والمترفين بأن كثرة الأموال والأولاد دليل على مَحبَّة الله لهم! فردَّ الله عليهم: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى)[سبأ: 37], وقال -سبحانه-: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَ يَشْعُرُونَ)[المؤمنون: 55, 56]؛ يُخطِئُ الذين يظنون أنه ما وَسَّعَ عليهم إلاَّ لفضلهم وعلوِّ مكانتهم, ويُخطِئُ الذين يَعْظُمُ في نفوسهم الأثرياءُ المستكبرون المختالون في الأرض, وقد أخذ اللهُ قارونَ أخْذَ عزيزٍ مقتدر, فخَسَفَ به وبداره الأرض, (فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاَ أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)[القصص: 81, 82].
والدنيا كلُّها لا تَزِنُ شيئاً عند الله -سبحانه-؛ كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ؛ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ"(صحيح, رواه الترمذي), فليس كَثْرَةُ العطاء في الدنيا دليلاً على كرامة العبد عند الله؛ كما أنَّ قِلَّته ليس دليلاً على هَوانِه عنده؛ قال -تعالى-: (فَأَمَّا الإنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ)[الفجر: 15-17]؛ فالغِنَى والفقر والسَّعة والضِّيق, ابتلاءٌ من الله وامتحان؛ لِيَعْلَمَ الشَّاكِرَ من الكافر, والصَّابِرَ من الجازِع.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
-------------------------------------------------
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أيها المسلمون: لله -تعالى- الحِكمةُ البالغة في جَعْلِ مَنْ يشاء غنيًّا, وجَعْلِ مَنْ يشاء فقيراً؛ فهو المُتصرِّف في أرزاق عباده, فيبسط لأُناس, ويُقَتِّر على آخَرِين, وله في ذلك حِكَمٌ بالغة, قال الله -تعالى-: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ)[النحل: 71]؛ وقال -سبحانه-: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا)[الإسراء: 30]؛ فالله -تعالى- هو الرزَّاق، القابض الباسط، المُتصَرِّف في
-------------------------------------------------
[1] فتختلف: أي تزول عن الهيئة المستوية التي كانت عليها من شدة التئامها عليه وشدة الضغطة.
[2] حسن: رواه الترمذي (1071)، وحسنه الألباني.
[3] بالغداة والعشي: أي في الصباح، والمساء.
[4] مقعدك: أي مكانك.
[5] متفق عليه: رواه البخاري (1379)، ومسلم (2866).
[6] صحيح: رواه البخاري (1369).
[7] انظر: «تفسير ابن كثير» (7/146).
[8] انظر: «صحيح البخاري» (2/97).
[9] صحيح: رواه مسلم (2867).
[10] انظر: «أصول الإيمان»، صـ (213).
[11] أيس: أي يأس.
[12] أوروا: أي أوقدوا.
[13] خلصت: أي وصلت.
[14] فذروني: أي فرقوا أعضائي، وألقوها، أو فرقوا رمادي بعد حرقي.
[15] راح: أي شديد الريح.
[16] صحيح: رواه البخاري (3479).
[17] أبيت: أي أمتنع من تعيين ذلك بالأيام والسنين والشهور؛ لأنه لم يكن عنده علم بذلك.
[18] عجب ذنبه: هو عظم لطيف في أصل الصُّلب.
[19] يركَّب الخلق: أي يجعله الله تعالى سببا ظاهرا لإنشاء الخلق مرة أخرى، والله تعالى أعلم بحكمة ذلك.
[20] متفق عليه: رواه البخاري (4814)، ومسلم (2955).
[21] متفق عليه: رواه البخاري (3414)، ومسلم (2373).
[22] غُرلا: أي غير مختونين.
[23] متفق عليه: رواه البخاري (6527)، ومسلم (2859).
[24] انظر: «تفسير الطبري» (18/254).
[25] متفق عليه: رواه البخاري (4760)، ومسلم (2806)
وقَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ لنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ﴾ [غافر: 46، 47].
قال العلماءُ:«هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي اسْتِدْلَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى عَذَابِ الْبَرْزَخِ فِي الْقُبُورِ»[7].
وقَالَ تَعَالَى: ﴿ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ [التوبة: 101].
استدلَّ الإمامُ البُخَارِيُّرحمه الله في صحيحِهِ بهذه الآيةِ، والتي قبلَها على عذابِ القبرِ[8].
ورَوَى مُسْلِمٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا، لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ».
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ».
قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ.
فَقَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ».
قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ[9].
ويجب الإيمانُ ببعثِ الموتى يومَ القيامةِ، وذلك بإحيائِهم، وإخراجِهم من قبورِهم للحساب، والجزاء.
فإنَّ اللهَ تعالى يجمعُ أجسادَ المقبورينَ التي تحلَّلت ويعيدُها بقدرتِه كما كانتْ، ثم يعيدُ الأرواحَ إليها، ويسوقُهم إلى محشرهِم؛ لفصلِ القضاءِ[10].
قالَ اللهُ تَعالى مقرِّرًا للبعثِ بأنَّ القادرَ على الابتداءِ قادرٌ على الإعادةِ منْ بابٍ أوْلى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الروم: 27].
وقَالَ تَعَالَى: ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِي ﴾ [لقمان: 28].
وقَالَ تَعَالَى: ﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [التغابن: 7].
وعندمَا قَالَ المعترِضُ على البعثِ: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾ [يس: 78].
قَالَ تَعَالَى: ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [يس: 79].
ورَوَى البُخَارِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «إِنَّ رَجُلًا حَضَرَهُ المَوْتُ، لَمَّا أَيِسَ[11] مِنَ الحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ: إِذَا مُتُّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا، ثُمَّ أَوْرُوا[12] نَارًا، حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ لَحْمِي، وَخَلَصَتْ[13] إِلَى عَظْمِي، فَخُذُوهَا فَاطْحَنُوهَا فَذَرُّونِي[14] فِي اليَمِّ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، أَوْ رَاحٍ[15]، فَجَمَعَهُ اللهُ فَقَالَ: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: خَشْيَتَكَ، فَغَفَرَ لَهُ»[16].
ورَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ».
قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا.
قَالَ: أَبَيْتُ[17].
قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً.
قَالَ: أَبَيْتُ.
قَالَ: أَرْبَعُونَ شَهْرًا.
قَالَ: أَبَيْتُ.
قَالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَيَبْلَى كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الإِنْسَانِ، إِلَّا عَجْبَ ذَنَبِهِ[18]، فِيهِ يُرَكَّبُ الخَلْقُ[19]»[20].
ورَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللهِ، فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ، إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ، أَمْ بُعِثَ قَبْلِي»[21].
أقولُ قولي هذا، وأَستغفرُ اللهَ لي، ولكُم.
-------------------------------------------------
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله وكفى، وصلاةً وَسَلامًا على عبدِه الذي اصطفى، وآلهِ المستكملين الشُّرفا، أما بعد:
فممَّا يجبُ الإيمانُ به في اليوم الآخر الإيمانُ بالحشْرِ، وهو الجمعُ بعد الموتِ؛ للحسابِ والجَزاءِ.
وقد دلَّتِ الآياتُ والأحاديثُ على حشرِ العبادِ بعد بعثِهم إلى أرضِ المحشرِ حُفاةً عُراةً غير مختونين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله،وإحسانه،وأشكره على توفيقه وامتنانه،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه،وسلَّم تسليماً كثيرًا، أما بعد:
فيا عباد الله: لا شك أن الانشغال بالدنيا عن الآخرة هو من أكبر أسباب ضعف الاستعداد وجمود العمل لما بعد الموت، ومن جعل الآخرة همّه حسُن عمله
يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "ما أكثر عبد ذكر الموت إلا رأى ذلك في عمله، ولا طال أمل عبد قط إلا ساء العمل"
ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عمر: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك". أخرجه البخاري.
فقِصَر الأمل ومعرفة حقيقة الدنيا وزوالها طريق إلى الاهتمام بالآخرة، وما أضر على العبد من التسويف في التوبة والنظر إلى المعمرين من الناس ظنًّا أن سيكون منهم، يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعدًا، ولا يغتر بالشباب والصحة، فإن أقل من يموت الأشياخ -يعني كبار السن- وأكثر من يموت الشبان، ولهذا يندر من يكبر ويعمر، ولذا قال الشاعر:
يعمر واحد فيغِرُ قومًا *** ويُنسى من يموت من الشباب
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا.
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله؛ كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحمي حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق ولي أمرنا وولي عهده لرضاك، وأعنهما على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم احفظ جنودنا، واحم حدودنا، يا رب العالمين، احفظ جنودنا يا رب العالمين، احفظ جنودنا المرابطين على حدودنا وثغورنا، اللهم اشف مرضاهم، وارحم موتاهم، وتقبلهم في الشهداء يا ربَّ العالمينَ.
اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا يا رب العالمين
اللّهم آت نفوسنا تقواها، زكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللّهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.
اللّهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
ربنا إن ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
القبر الواعظ الصامت - الشيخ ماجد آل فريان
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيماً)
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المسلمين: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسير في نفر من أصحابه في حائط لبني النجار، إذ حَادَتْ بِهِ بغلته التي يركبُها فَكَادَتْ تُلْقِيهِ، وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ، فَقَالَ -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الأَقْبُرِ؟!"، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ: "فَمَتَى مَاتَ هَؤُلاء؟!"، قَالَ: مَاتُوا فِي الإِشْرَاكِ، فَقَالَ -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلا أَنْ لا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ"، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ"، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فَقَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ... الحديث رواه الإمام مسلم.
إنه الواعظ الصامت -يا عباد الله-، إنه القبر الذي لا يتكلمُ ولكنَّ صوتَه في أعماق الناس أعلى من صوت الواعظ الجهوري الصوت، إنه القبر الذي لا يملك العبارات المنمقة ولا يحرك يديه ولا وجهه ليجذب جمهور المستمعين والمشاهدين لخطبته؛ لأن الجاذبية تركزت فيه هو، وهو يجذب القلوب قبل الأجساد.
فهو واعظ بليغ الموعظة مع صمته، ولا يزال يقول لكل إنسان زاره أو مرّ به: تعالَ وهلم إليّ، فكلُّ الطرق تؤدي إليّ، فأنا الحفرة التي توضع فيها الأجداث، بعد أن يبقى أهلها ومالها، أنا المكان الذي يصطدم به من يفر منه، ويلتصق به من يهرب منه: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة: 8].
إنَّه ما من شيء تهرب منه -يا عبد الله- إلا تركته وراءك ظهريًا إلا الموتَ؛ فما يهرب أحد منه إلا وجده أمامه بين يديه.
سوف يحتضنك الموت الذي تفر منه، فهو ينتظرك أبدًا دون تململ، وأنت مع هربك منه تتقدم إليه دون تراجع.
معاشر المسلمين: ولأن القبرَ واعظٌ بليغُ الموعظة، وناصحٌ واضح النصيحة، حث الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أكثر من موضع على زيارة القبور، وزار قبر أمِّه فبكى وأبكى من حوله، وقال: "استأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت". رواه مسلم، وللترمذي: "تذكر الآخرة"، وزاد ابن ماجه من حديث ابن مسعود: "وتزهد في الدنيا".
إن زيارة القبور -يا عباد الله- تذكّر مَنْ طبعه النسيان بالنهاية الحتمية، وهي الموت، وهذا من شأنه أن يجعل المرء متذكرًا للآخرة، عاملاً لما بعد الموت.
ألا إنَّ التراب الصامت في المقابر ما هو إلا واعظ بليغ الموعظة، وزيارة ذلك الواعظِ ومجالستُه وكثرة التردد عليه من أكبر أسباب تقوية القلب، وإزالة الغشاوة، فأنت عندما تذهب إلى المسجد يوم الجمعة تستمع إلى واعظ واحد، فالمصلون كثيرون والواعظ واحد، ولكن الصورة على العكس في المقبرة، فكل قبر واعظ، والمقبرة مليئة بالوعاظ، وأنت تستمع إليهم في آن واحد، وتعتبر من حالهم، وهذه حالة فريدة لا تكون إلا في ذلك المكان.
وزيارة القبور تذكر بالموت الذي هو هادم اللذات ومفرق الجماعات، مَنْ أكثرَ ذكرَه تعلق بالآخرة وزادت خشيته، فبادر بالأعمال قبل لحاق الموت بك، يقول رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا ذكر هادم اللذات، الموت"، رواه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان، وزاد الطبراني: "فما ذكره عبد قط وهو في ضيق إلا وسعه الله عليه، ولا ذكره وهو في سعة إلا ضيقه عليه".
يقول ابن مسعود -رضي الله عنه- لما سئل: أي الناس أكيس؟! قال: "أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم لما بعده استعدادًا، أولئك الأكياس".
ثم قال يوسف عليه السلام: ﴿ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا ﴾ [يوسف: 101]، لمَّا عدَّد يوسف النِّعَمَ التي أنعم الله بها عليه من نعمة الملك وتأويل الرؤى، طلب من ربه أن يتم عليه أعظم نعمة، وهي أن يتوفَّاه على دين الإسلام، وإن من صفات المؤمن عدم اغتراره بنفسه وبإيمانه وتقواه، وظنه أنه سيموت على الإسلام يقينًا، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فعلى العبد أن يسأل ربه الثبات على الحق، والموت على الإسلام، وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تكون بين يدي الساعة فتنٌ، كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا، يبيع أقوام دينهم بعَرَضٍ من الدنيا))؛ [رواه الترمذي]، فكم سمعنا من كان مسلمًا فتنصَّر وكفر، ومن ألحد وأنكر الرب جل وعلا، ومن كان مستقيمًا صالحًا، فترك طريق الحق والطاعة، واتبع طريق الشيطان والغواية! ولقد كان من أكثر دعاء النبي عليه الصلاة والسلام الدعاء بالثبات على الدين؛ سألت أم سلمة رضي الله عنها: ((يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: كان رسول الله يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك، قالت: فقلت: يا نبي الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف شاء))؛ [رواه الترمذي].
أيها المسلمون: إن من أعظم النعم التي يمتنُّ الله بها على المسلم نعمة الإسلام، فوجب عليه أن يحافظ عليها، وأن يتمسك بها، وأن يبتعد عن كل ما يكون سببًا في إبعاده عنها؛ من شهوات مهلكة، وشبهات مضللة، فوالله لا يعرف قَدْرَ الإسلام وقيمته إلا من حرمه.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------------------------------
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
ففي نهاية هذه الدعوات دعا يوسف عليه السلام ربه؛ فقال: ﴿ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101]، سبحان الله! مَلَكَ يوسف خزائن مصر، وأصبح ذا مكانة عالية غِنًى ومنصبٌ وجاهٌ، وسليمان عليه السلام كذلك ملك الدنيا وما فيها، وسخر الله له ما لم يسخر لغيره، ومع ذلك كله اتفقت كلمة النبيين بعد هذا التمكين في الأرض، فقال يوسف في نهاية القصة: ﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101]، وقال سليمان: ﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19]، وقالها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [الشعراء: 83]، نعم، فمرافقة الصالحين هي الأساس، وهي الحياة الحقيقية، وبها يتحصل المرء على السعادة الأبدية، مرافقة لهم في الدنيا على الطاعات والخيرات، ومرافقة لهم في الآخرة في الجنات.
أيها الكرام: إن من الأخلاق الحسنة التواضع حتى في الدعاء، فيوسف دعا ربه بهذه الدعوات هو ومن معه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أنهم أنبياء صالحون، ومع ذلك يطلبون من الله أن يلحقهم بالصالحين، فكأنهم ليسوا منهم، والمرء الصالح يريد مرافقة الصالحين في الآخرة، كما رافقهم في الدنيا، فمرافقتهم شرف وخير وعز في الدنيا والآخرة؛ وكما قال صلى الله عليه وسلم: ((المرء مع من أحب))؛ [رواه البخاري].
وقوله: ﴿ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [الشعراء: 83]، كأن يوسف عندما رأى الدنيا اجتمعت له بكل ما فيها من منصب ومال وجاه، واجتماع أحبة وإخوان وعشيرة، علم أن كل ذلك مهما كان هو من الدنيا الفانية، فتمنى ما عند الله من خيرات ودرجات وجنان، فعلى المرء إن رأى الدنيا مقبلة عليه بكل صورها وأشكالها، أن يذكر نفسه بما عند الله من نعيم مقيم، وخلود أبدي، حتى لا تُفْتَن نفسه وتغتر.
وأخيرًا: ثبت يوسف عليه السلام في الضراء فصبر واحتسب، وثبت في السراء فشكر وحمِد، وهذه هي حال المؤمن؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرًا له))؛ [رواه مسلم].
فاللهم اجمعنا مع نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ويوسف عليه السلام ومع جميع الأنبياء والرسل في الفردوس الأعلى من الجنة.
عباد الله : صلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله؛ كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله،وإحسانه،وأشكره على توفيقه وامتنانه،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه،وسلَّم تسليماً كثيرًا، أما بعد:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أَنَّنَا فِي زَمَنٍ ظَهَرَتْ فِيهِ أَمْرَاضٌ مُسْتَعْصِيَةٌ وَبَلايَا مُتَنَوِّعَةٌ، وَذَلِكَ لِزِيَادَةِ سُعَارِ الشَّهَوَاتِ، وَاسْتِجَابَةِ ضِعَافِ النُّفُوسِ لِدُعَاةِ الْفَوَاحِشِ وَالرَّذِيلَةِ، لِذَلِكَ لَهِجَتْ أَلْسِنَةُ أَهْلِ الدِّينِ وَالطِّبِّ وَالْفِكْرِ وَالاجْتِمَاعِ إِلَى الطُّهْرِ وَالْعِفَّةِ وَالنَّقَاءِ.
عباد الله: إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُوَجِّهُنَا فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ إِلى مَا يَكْفُلُ لِلْمُجْتَمَعِ طُهْرَهُ، وَيَحْفَظُ لِلأُسَرِ نَقَاءَهَا، وَيَقْطَعُ طَرِيقَ أُولِي الْفَسَادِ، وَيَمْنَعُ سَبِيلَ الإِفْسَادِ، ومن ذلكَ: غضُ البصرِ وحفظُ الفرجِ والبعدُ عن مواطنِ الفتنِ وأماكنِ الريبِ (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)[النور:29-30].
أَلا وَلْتُعَزِّزْ ذَوَاتُ الْخُدُورِ حَيَاءَهَا بالخوفِ من اللهِ -تعالى- وبالبعدِ عن التبرجِ والسفورِ والاختلاطِ، فعن مالكِ بنِ ربيعةَ قال: سمعتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ وهو خارجٌ من المسجدِ فاختلطَ الرجالُ مع النساءِ في الطريقِ؛ فقال للنساءِ: "استأخِرْنَ، فإنَّه ليس لكنَّ أن تَحْقُقْنَ الطريقَ، عليكنَّ بحافاتِ الطريقِ"، فكانتِ المرأةُ تلصقُ بالجدارِ حتى إن ثوبَها ليعلقُ بالجدارِ. (رواه أبو داود). ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما تركتُ بعدي فتنةً أضرَّ على الرجالِ من النساءِ"(رواه البخاري).
عباد الله: إنَ الغيرةَ على المحارمِ مظهرٌ من مظاهرِ الرجولةِ، وفيها صيانةٌ للأعراضِ وحفظٌ للحرماتِ وتعظيمٌ لشعائرِ الله؛ أَلا فلْتَتَعَزَّزِ الْغَيرَةُ عِنْدَ أُولِي الْوِلايَةِ: "لا يخلونَّ رجلٌ بامرأةٍ إلا ومعها ذو محرمٍ"(متفق عليه).
أَلا وَلْيَتَذَكَّرِ الإِنْسَانُ -عباد الله- قَوْلَه -صلى الله عليه وسلم-: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ"، وَذَكَرَ مِنْهُمْ: "وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنَّي أَخَافُ اللهَ"، فَهَنِيئًا لِلثَّابِتِينَ ثَبَاتُهُمْ، وَلِلرَّاسِخِينَ رُسُوخُهُمْ.
فَيَا ذَوي الْعِفَّةِ لِنَتَّقِ اللهَ وَلْنَتَمَسَّكْ بالْمَنْهَجِ الْقُرْآنِيِّ الشرعيِّ، وَلْنُرَبِّ عَلَيْهِ أَفْلاذَ أَكْبَادِنَا، فَإِنَّ الطُّهْرَ إِذَا انْعَدَمَ ضَاعَتِ الْأُمَمُ، وَإِذَا دُنِّسَ النَّقَاءُ حَلَّ الْبَلاءُ.
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله؛ كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد.
وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحمي حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق ولي أمرنا وولي عهده لرضاك، وأعنهما على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام.
اللّهم آت نفوسنا تقواها، زكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللّهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.
اللّهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
ربنا إن ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
معاذ الله ( قصة يوسف عليه السلام ) - الشيخ نواف الحارثي
الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: "أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ"، قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: "فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ"(رواه البخاري).
أيها المؤمنون: إنَّ فِي قِصَصِ السَّابِقِينَ عِبْرَةً، وَفِي أَخْبَارِ الْمَاضِينَ عِظَةً، لِذَا حَوَى الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ طَائِفَةً مِنْ أَخْبَارِ مَنْ سَبَقَنَا مِنَ الأُمَمِ، وَقِصَصًا لِلأَنْبِيَاءِ أُولِي الْعَزَائِمِ وَالْهِمَمِ، يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)[هود: 120]، ويقول -تعالى-: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)[يوسف: 3].
وَقِصَصُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي حَقِيقَتِهَا مَدَارِسُ تُقَوِّمُ الْفِكْرَ وَتُوَجِّهُ السُّلُوكَ، وَقِصَّةُ يُوسُفَ مِنْ أَرْوَعِ قِصَصِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَهِيَ عِبْرَةٌ لِكُلِّ ذِي قَلْبٍ سَلِيمٍ، وَهِيَ مَدْرَسَةٌ حَوَتْ دُرُوسًا عَظِيمةً، يَقُولُ -تعالى-: (َقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ)[يوسف:7].
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: تَرَبَّى يوسفُ وَنَشَأَ فِي بَيْتِ الْعَزِيزِ، فَلَمَّا أَنِ اشْتَدَّ عُودُهُ وَبَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ، دَعَا امْرَأَةَ الْعَزِيزِ هَوَى نَفْسِهَا، وَوَسْوَسَةُ شَيْطَانِهَا، أَنْ تُرَاوِدَ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ. وَالمُرَاوَدَةُ طَلَبُ الْفِعْلِ -عَلَى جِهَةِ التَّكْرَارِ وَالتَّردَادِ- وَذَلِكَ يَدُلُّ بِمَا كَانَتْ عَلِيْهِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ مِنَ انْفِعَالِ الشَّهْوَةِ وَسُعَارِ الرَّغْبَةِ، فَقَدْ طَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يَفْعَلَ مَعَهَا الْفَاحِشَةَ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-؛ مُسْتَغِلَّةً كَوْنَ يُوسُفَ فِي بَيْتِهَا، مُتَيَقِّنَةً أَنَّهُ فِي مَوْقِفِ مَنْ يُطْلَبُ مِنْهُ فَيُجِيبُ، تَسْحَبُهُ بِذَلِكَ أَغْلالُ الْخِدْمَةِ، وَتُطَوِّقُهُ رِبْقَةُ الْجَمِيلِ.
وَلَمْ تَكْتَفِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ بِذَلِكَ –وَالْمَشْهَدُ مُسْتَمِرٌّ-، بَلِ انْدَفَعَتْ بِمَا يَثُورُ فِي نَفْسِهَا، وَيَضْطَرِمُ مِنْ رَغْبَتِهَا، إِلَى الأَبْوَابِ مُغَلِّقَةً مُوَثِّقَةً، فَصَارَ المَشْهَدُ فِي خُصُوصِيَّةٍ بَالِغَةٍ، وَعُزْلَةٍ تَامَّةٍ، وَلَمْ تَكْتَفِ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ، بَلْ أَقْبَلَتْ عَلَى يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلامُ- مُبْتَذَلَةً، مُلْتَجِئَةً إِلَى التَّصْرِيحِ بَدَلَ التَّلْمِيحِ، وَإِلَى الطَّلَبِ الْوَاضِحِ، وَالْعَرْضِ الْمَحْضِ الصَّرِيحِ (هَيْتَ لَكَ)[يوسف:23] فَمَاذَا بَعْدَ هَذَا؟
سَيِّدَةٌ ذَاتُ مَنْزِلَةٍ وَحُسْنٍ وَجَمَالٍ تَقْدَمُ بِكُلِّيَّتِهَا إِلَى شَابٍّ لَا يَمْلِكُ مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا شَيْئًا وَقَدْ مَزَّقَتْ لَهُ كُلَّ الْحُجُبِ، وَذَلَّلَتْ لأَجْلِهِ الأَمْرَ، وَالظُّرُوفُ قَدْ هُيِّئَتْ، وَالمَرْأَةُ قَدْ تَهَيَّأَتْ، وَالشَّابُّ غُلامٌ فِي بَيْتِهَا، مُلْزَمٌ بِخِدْمَتِهَا، وَهُوَ فِي رَيْعَانِ الشَّبَابِ، وَذُرْوَةِ الْفُتُوَّةِ وَالْعُنْفُوَانِ، فَمَاذَا