🌐 الموقع الرسمي 🌐 http://rwayatsudan.blogspot.com طريقك نحو حب القراءة 🍂 • PDF @PDFSD •للتواصل | •فريق العمل | @RwayatSdbot 📨 •قناتي الثانية | @pllli 💋 •قناتي المفضلة | @pandasd 💟 •كباشية | @pllii💌 •فهرس الروايات | @uiiiio 📙
ألا هُبّي بصَحنكِ فاصبحينا
ولا تُبقي خُمور الأندرينا
مشعشعةً كأنّ الحُصّ فيها
إذا ما الماءُ خالطها سخينا
تَجورُ بِذي اللّبَانةِ عن هَوَاهُ
إذا ما ذاقها حتى يلينا
ونشربُ إن وردنا الماء صفواً
ويشربُ غيرنا كدراً وطينا
إذا بلغَ الفطامَ لنا صبيٌّ
تخرُّ لهُ الجبابرُ ساجدينا
نُسمّيهمُ كما شئنا إذا ما
فزَعْنَا من نُحورِ المُعتدينا
وكنا الأيمنين إذا التقينا
وكان الأيسرون بنو أبينا
فصالوا صولةً مثل الحُبابِ
أحين يُفضُّ عنهم مستكينا
ونحن الحاكمون إذا أطعنا
ونحن العازمون إذا عصينا
وكم قد مغرمٍ قد قلّدَناهُ
سيوفَ الهندِ حتى ما يَدينَا
من معلقة عمرو بن كلثوم
ان شاء الله م تقيف لمن تصل بيت هناي رئيسهم
Читать полностью…#حريق كبير جدا في المنطقه الصناعيه ابوظبي
والدفاع المدني يستخدم الطائرات في اطفاء الحريق بدون فائدة حتى الأن ...
تابع قناة السودان علي الواتساب.
°
°
°
بدأت بتاريخ 10 أغسطُس 2024 وانتهت بتارِيخ 25 مايُو 2025، حيثُ أخذَ كُلُّ حرفٍ معها جُزء من صحّتي ووقتِي وقلبِي، وطالت الرحلة برفقتها، والحمدلله قد رسى القاربُ اليوم على شاطيء الوصُول، الشُكر موصُولٌ لجميعِ من تابعنِي بلا كللٍ ولا مللٍ، تحمَّلُوا غيابِي المطوّل واعتذراتِي وتحمّلُوني، بل وشجّعُوني وكانت كلماتهم هِي المُنقذ الوحيد عند الهوَّةِ السحيقة، كُنتم خير عائلةٍ فِي هذهِ الرحلةِ التِي اعتبرها لاذعةً بعض الشيء وصعبة أمامَ كُلّ تلك المعوَّقات، شُكرًا بحق، وإلى اللقاء.
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ **ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ﴾
❁ فِي منزل العلاوِي❁
" ستّ النَّاس، أتمنَّى تكُوني كُويِّسة؟.. اليُوم أنا شاعِر بإحساس غريب، وما عارفهُ هُو شنُو، على العمُوم أنا عايز أقول ليك، أنا لو غبت عن الحياة دِي تحت أيِّ لحظَة، عايزك تعرفِي إنِّي غبت وأنا مُؤمن إنِّي خلِّيت وراي أحلى وردة فِي الدُنيا دِي، ما عايز الخرِيف يتغلّب عليها، ما عايزها تنكسر، وما عايزها تذبل، خلِّيكِ زي ما عرفتك، مُحافظة على صلواتك فِي وقتها، وأمسكِي فِي ربَّنا قوِي، وأدعي لي كتيير، يا زوجتي العزيزة، بحبِّك جدًّا "
أشاحت بعينيهَا عن الرسالةِ المكتُوبة فِي الشاشة، والمُدوَّنةِ بتاريخِ الأمس، ازدردت رِيقها فِي توتُّرٍ وجعَلت تُحاول الاتّصالَ بهِ، ولكِن لا ردّ، مرَّة تلو الأخرى، ولا استجابَة، سحَبت عباءةً سوداء ووشاحًا أسودًا وخرجت فِي عجلٍ نحو الشارِع، تصادمت مع أخيها الذِي وقفَ مُستغربًا من حركتها المُضطّربة:
_ سُندس، أنتِ كُويِّسة؟
= سيَّاف تعرف عُثمان مالهُ؟
_ لأ، آخر مرَّة اتكلّمت معهُ أمس النّهار، مالك بسم الله؟
= ما بعرف، ما بيردّ التلفُون وأنا مُتّصلة عليهُ ستِّين مرَّة.
_ بيكُون فِي الشغل بسم الله ياسُندس، استغفرِي وأطردي الشيطان.
= أرح ودِّيني مكتبهُ.
_ يا بت، أنتِ مالك؟
شدّتهُ من يدهُ وجعَلت ترجُوه ليأخذها إليهِ، لكنّهما فُوجئا بأنَّ المكتبَ مُغلقٌ، ولا أحدَ فِي المكان، انتقلَا إلى منزلهِ، ففُوجئا بالعزاءِ مُقامٌ هُناك، أحسَّت بأنَّ الأرضَ تميدُ تحت قدميها، تصبّبت عرقًا وجحظت عينيهَا بصدمَة، وسقطت على أخيها بعد أن خذلها توازن قدميهَا وكأنّ الهواءَ ينبعثُ من خرم ابرةٍ حينهَا...
❁ فِي المحكَمة❁
" وبناءً على الأدلَّة والادّعاءات القويَّةِ المرفُوعةِ ضدّ المُتّهم، ووفقًا لُحكم الشريعةِ والدّين، حكمت المحكمة عليهِ بالإعدام شنقًا حتَّى الموت.. رُفعت الجلسة. "
دُقّت المطرقةُ على طاولةِ القضاءِ دقَّةً قويَّة، صدحَ صداها فِي آذان جميعِ الحاضرِين، وأذنيهما خصيصًا، نظرَت إليهِ بنظرةٍ غريبةٍ قليلًا، فابتسمَ الآخرُ بدورهِ ليطمئنها ويسحبها إلى حجرهِ، وأخيرًا انتهَى كابوسٌ كانَ يدوسُ على حياتهما، ويزرعُ الخوفَ حولهما دومًا، نبسَت بخفُوت ودمُوعها تتساقطُ من عينيهَا:
_ انتهَى، الفَارُوقِي انتهَى يا فارِس.
قبَّل رأسهَا واومأ:
= الحمدلله ربّ العالمِين، كُلّ ذي حقٍّ بحقِّهِ.
رفعَت رأسها إليهِ:
_ الحمدلله.
نهضَ ومدّ إليها يدهُ مُبتسمًا بخفّة:
= قُومي، عندِي ليكِ مُفاجأة تانية.
_ واللِّي هي؟
_ يلَّا بس...
ابتسمَت ومدّت يدهَا بحماس...
❁ بعد مُرور ساعتينِ❁
جلست فِي أحضانِ والدتها تذرفُ الدمُوعَ بغزارة، وكأنّها تعيشُ فِي حُلم، جعلت تُقبّلُ يدها وتتمسَّكُ بثوبها كأنّها طفلةٌ تخافُ أن تضيعَ دُون والدتها، قبّلت الأخرى رأسها:
_ حبيبتِي يا حبيبتِي خلاص، الحمدلله أنا أهُو جنبك.
= ما تمشِي تخلِّيني تانِي يا ماما، أنتِ ما عارفة حصل لي شنُو من دُونك.
_ خلاص يا حبيبتِي أمسحي دمُوعك، وتعالِي أحكِي لي حصل لك شنُو من دُونك.
تدخّلت ابنةُ خالتهَا بنبرةٍ ساخرة قائلةً:
_ شكلها ضيَّعت الرضَّاعة بتاعتها يا خالتُو سارة.
صكّتها على ذراعها:
= أنتِ أقفلي خشمك يا سبأ.
_ آه، بقيتِ شرسة زيادة عن اللزُوم يا رسيل.. دا أنت يا فارِس مُش؟ علّمتها لينا الشراسة والدلع دا.
أجابها:
_ لالا، أنا فاجئتها بس بجيّتكم.
ضحكَ الجميعُ من حولهما، خرجَ "غازِي" برفقةِ "فارِس" مُتعجِّلًا إلى الخارِج، بينما طالعت "سُميَّة" "رسيل" والتوت شفتيها:
_ أجشش يا يُمّة لا حنَّة لا دُخّان؟ عروس شنُو أنتِ؟
ابتسمت "رسيل":
= كدا مُرتاحة يا خالتُو أحسن لي.
_ لا ما أحسن ليك، ما عندنا مرأة بتطلع مُبهدلة عاد، وقُومي من حضن أمِّك ريّحيها شويَّة كفاكِ، دا حالتهُ ست بيت قال.
قلَّبت "سبأ" عينيها:
_ حليمة رجعت لقديمها، أنا شكلي ما حَ أخلص من درامات أمِّي ورسيل ديل.
ضحكنَ بصوتٍ عالي تغمرهنّ سعادةٌ عارمة...
❁ فِي الخارج❁
جلسَ "فارِس" إلى جانبِ "غازي" الذِي بدا قلقًا وكأنّهُ يودُّ الإفصاحَ لهُ عن أمرٍ مُهم، تنحنحَ "فارِس" وسألهُ:
_ فِي حاجة يا عمِّي؟
= أممم، أسمعنِي يا ولدِي.. أنا كبرت، والمفرُوض رسيل تعرف الحاجَة دِي.
_ أحكي يا عمِّي.
= هيثم ود عمِّي ربَّنا يرحمهُ كان متزوِّج قبل سارة مرأة، اسمها ساريَة، اتطلَّقُوا بسبب اختلافات بسيطة وبعدِين سمعت من أبوك ناصِر ربَّنا يرحمهُ إنّهُ هِي اتزوَّجت، كان صاحِب هيثم لزم وصُحبتهم ما مُحتاجة تعريف أصلًا.
ابتسمَ "فارِس":
_ هُو عمِّي هيثم بتقارن بشخص؟ كان أطيب إنسان أنا شفتهُ على وجه الأرض، لولاهُ من بعد الله ما كمّلت دراستِي وما كان ناصِر نجا من العمليّة، بتذكّر وقت ما اتبرّع ليهُ بكليتهُ، أثبت لي فعلًا إنّهُ الصُحبة الحقيقيّة موجُودة، ربَّنا يرحمهم.
أنتِ التِي سكنت جيدك تنهيدةٌ هربت من أقفال أضلعي، فنامت مُطمئنَّة هُناك، أنتِ التِي طابقت تعرُّجات شفاهك ملامح خارطتِي، فقررتُ أن أتوهَ بها، لوحةٌ فنّية أضافت عليكِ السماءُ زُرقتها، فغدت أثمنَ ما يُمكن على الأرض، تمزّقَ اسمِي مع طعناتِ الحياة، حتَّى هبّت نسمتكِ، وأذّنت نبضاتكِ بأذنِي، وجريتِ فِي مجرى أنفاسِي لأُولدَ من جديد، كُلُّ شيءٍ هُو أنتِ، يا أعذبَ أمنيات فارِس التِي لم يحلم بها. "
يُتّبع...
_ طيِّب، أنا وفارِس علاقتنا زي ما شايفة أكتر من خالة وولد أختها، نحن أصحاب، أخوان، حبايب، كُلّهُ، وأصلًا مُستحيل زُول يشُوفنا يفتكر إنِّي خالتهُ لأنّهُ أكبر منِّي وأنا اتولدت بعدهُ، ومن قُمنا نحن كدا، بيشاركني كُل أسرارهُ وحاجاتهُ وأنا كذلك، حتّى أكتر من أختهُ شجن ربَّنا يرحمها، فارِس يا رسيل فِي صغرهُ اتعنَّف تعنيف شديد من والدهُ، اتعرّض لضغط ما بتمنَّاهُ حتَّى للعدو، مرَّات كتيرة كُنت بخلِّي ماما ربَّنا يرحمها تطلب من ناصِر يخلّيهُ معانا كم يوم، ما بقدر أشوفهُ وهُو مُستضعف ومتألِّم كدا، بعدين قرَّر يخلِّي البلد كُلّها ويسافر، فجأةً كدا من غير ما زول يعرف، خلَّاني أبكي وراهُ بكاء الدُنيا لمَّا انقطع منِّي.
تنهّدت تنهيدةً قصيرة وتابعت:
_ طبعًا بعد فترة عرفت إنّهُ اتزوَّج، ورجع يكلِّمني تاني وقال ما بيقدر ينقطع منِّي، ما بكذّب عليك اتقفلت منّهُ وزعلت شديد، لدرجة كان حَ يجي السُودان عشانِي لكن قُلت ليهُ إنِّي رضيت خلاص، لأنِّي عارفة لو رجَع حَ يتألَّم كيف، وهُو كان عايش مبسُوط مع مرتهُ إسراء، وعرّفني عليها وصراحة كانت لطيفة شديد، فارِس كان بيبحبّها ومُتعلّق بيها شديد، لكن قدَّر الله ما شاء وفعل، إسراء ماتت والسبب كان حريق قام في بيتهم، كانت مُحاولة اغتيال ليهم الاتنين صراحة وفارِس بحمد الله طلع منّها، بفقدانها حسَّ إنّهُ فقد آخر أمل فِي الدُنيا، فارِس بعدها تانِي انقطع منِّي نهائيًّا ومن العالم كُلّهُ، ماف زول عارِف هُو مشى وِين وأصلًا هُو كان حي ولا ميِّت، سافرت برّة البلد وجيت راجعة، وبحمد الله لقيتهُ.. كان زيّ الحلم بالنسبَة لي.
صدَّت "أسمار" دمعتها التي كانت على وشكِ السُقوط، بينما أغمضت "رسيل" عينيها بألم لتكبح دمُوعها عن النزول، سألتها بخفوت:
= منُو الكان السبب فِي مُوتها؟
_ واحِد من أعداء ناصِر اسمهُ الفَارُوقِي، وهُو فِي نفس الوقت كان عدوّهُ لأبو إسراء، اعتقد إنّهُ مُجرم، وأبو إسراء كان صحفي، العلاقة بينهم واضحة.
جعلت "رسيل" تُردّد "حسبي الله ونعم الوكيل عليه" فِي سرَّها، ابتسمت إسراء مُحاولةً لدرأ الضبابيّة التِي أشحبت صفاء الجو:
_ ما علِينا، عارفة عندِي ليك أحلى طقم ذهب!!
ابتسمت "رسيل" ابتسامةً صغيرة:
= بمُناسبة شنُو؟
_ يعني حماتك بتحبّك ضروري يكُون فِي مُناسبة؟.. كدا لله فِي الله.
= حبيبِي واللهِ، مافِي د...
قاطعتها "أسمار" وهِي تقوم إلى دُرجٍ قريبٍ منها وتُخرج منهُ صندوقًا أبيضًا كبيرًا لتُهديهِ لها بحُب:
_ خُديهُ عنِّي، اعتبريهُ هديَّة من محلّات لاڤين، أنتِ تستاهلي كُلّ الخير.
أردفت بنبرةٍ فُكاهيَّةٍ:
_ واتعوّدِي على الذهب، فارِس يا يُمّة وبعرفهُ تانِي ما حَ يخلِّي ليك ذهب حايم أجششش، مرررتك يا فارِس ناصِر عاد.
ضحكت "رسيل" خفيفًا وهِي تتناولهُ عنها وتُمرّر نظرها بهِ، بينمَا هُم كذلك إذ يدخُل عليهما شخصٌ ثالثٌ ويُلقي التحيَّة:
_ السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته.
"رسيل" و"أسمار" فِي وقتٍ واحد:
= وعليكمُ السلامُ ورحمة الله وبركاتهُ.
تابعت "أسمار":
_ فارِس يا بابا وين كُنت؟ العسُّولة دِي من قبيل جات تطمئن عليك.
_ أسمار شِيلي ساجد.. عايز اتكلَّم مع رسِيل شويَّة.
_ حاضِر.
حملتهُ عن" رسيل" التِي كانت تُطالع ملامحهُ بقلق، ابتسمَ وهُو يوجّهُ كلامهُ لـ "أسمار" ويُمسك يد "رسيل":
_ جهِّزي لينا طقمين ذهب وطقم فضَّة يا باش مجوهراتِي.
فغرت "رسيل" فاهها بحِيرةٍ بينمَا قالت "أسمار" بحماس:
_ حااضِر يا باشمهندس.
غمزَت لـ "رسيل" التِي هزَّت رأسها نفيًا:
= ذهب شنُو يا فارِس؟؟.. كفاية هسِّي أسمار أهدتني طقم.
_ دِييك أسمار، ما لي علاقة بيها.
سحبها سريعًا إلى الخارِج دُون جدالٍ، ركبَا فِي المقاعد الخلفيَّة للسيّارة، أغمضَ "فارس" عينيهِ وتنهّد قبل أن يقُول:
_ رسيل، عايز أقول لك شيء، بخصُوص الماضِي بتاعي، عشان أكُون واضِح وصريح معاك.
تفاجأ بردّها حين وجدها تنبسُ بهدوء:
_ عارفَة كُل شيء، أسمار ورَّتنِي.
أمسكَت بيدهِ واحتضنتها بينَ كفّيها لتستطردَ بعطف:
_ ربَّنا يرحمها ويغفر لها يا رب، الدايرة أقولهُ لك يا فارِس، إنّهُ أقدار ربَّنا زيّ الدواء المُر بالنسبة للطفل، قد يكرهُه لطعمهُ المُر، لكنّهُ حَ يشفيهُ، الإنسان ما بيدرك الحاجة دِي إلَّا مُتأخّر غالبًا، صعُوبة الأقدار هِي السبب فِي إنّنا نكُون قويين، وأقرب لربّنا، يمكن إسراء ربَّنا يرحمها كانت من النّاس البيحبّهم ربَّنا وحبّ يجاورها ليهُ من بدري، وأصلًا الدُنيا ما بيبقُوا فِيها إلَّا الشقيانين.
زفَرت وهِي تضعُ يدها فِي صدرهِ مُشيرةً إلى قلبهِ ثمَّ أردفت:
_ هنا، هنا الإنسان بيقدر يغربل الحياة دِي يا فارِس، هِي كُلَّها بتجِي على بعضها وبتجُوط، والبيختارهُ القلب هُو الحَ يفضل معاك، فأنت لازِم تختار من كُل شيء خِيرتهُ، وما تفضل مُعلِّق بالسيء.. أنا أوَّل ما قابلتك، التمست النُور فِيك صدّقني.
رسيل
الحلقة الأربعون {40}
بقلم: رحاب يعقوب
{مُورفــينَـــا}
امتطَى سيّارتهُ وحلَّت هِي على المقعدِ الذِي يُجاور مقعد السائق، تبادلَا نظراتَ الانتصارِ والفخر للحظَة، جعل يشبكُ أصابعهُ مع أصابعها ويرفعُ كفّها إليهِ ليُقبّلهُ، تورّد خدَّها قليلًا وجعَلت تُطلق نظراتها نحو السماء عبرَ نافذةِ السيّارة، تنحنحَ وهُو يُطالع الزحامَ أمامهُ ويقُول بفخر:
_ ما كلّمتك خُطّتك حَ تمشِي عليهُ زيّ السير يا رسيل؟
التفتت إليهِ وهِي تُعبّر عن امتنانها:
= الحمدلله، ذلكَ الفضلُ من الله، ثمَّ لك الفضل يا فارِس.
_ الحمدلله، آمنت بإنّهُ المرأة داهِية.
تنحنحت وقد ارتفع حاجبها وهِي تنبسُ بغرور:
= كيف ليك بس؟
ضحكَ بقوَّة:
_ ستّ النّاس يا...
أطرقت وهِي مُبتسمة، بينمَا ظلّ هُو يتأمَّلُ بها دقائق أخرى، كما لو أنّهُ يِريد تشرُّب ملامحها بعينيهِ وحفرها في ذاكرتهِ للأبد...
❁ فلاش باك _ Flash back❁
"قبل مُرور خمسةِ أيَّام"
فِي ليلٍ بهيم، حيثُ تجاورت النجُوم المُتعبة بصمتٍ لتُدارِي ضعفها بتكاتفها، وتُطلق شعاعًا قويًّا، أُقيم مجلسٌ سريعٌ على شاطيء النِيل يجمعُ بينَهم الثلاثة، توقّفت هِي أمامهما وتنحنحت لتطرحَ لهما خُطّتها التِي ستصطادُ بها "الفَارُوقِي":
_ فارِس، عُثمان، أسمعُونِي كُويِّس.
زفَرت وهِي تستطردُ:
_ الفَارُوقِي حاليًّا بيكُون صدّق حكاية إنِّي قتلت فارِس، وأنا مُتأكِّدة تمامًا زي ما حاليًّا شايفاكم قدّامي المشهد حَ يكُون خدعهُ واُعمي عليهُ بإنّهُ اتنفّذ الفِي رأسهُ وهسِّي أنا حاليًّا طلعت بفارِس عشان ادفنهُ، ما علينَا، بعد كدا لازِم يتدردق عشان يجي راجع السُودان، طبعًا يجي راجع لحتفهُ.
نظّفت حنجرتها وتابعت بصوتٍ أكثر وضُوحًا:
_ ما مُحتاجة أعرِّف عن الفَارُوقِي، ما عندهُ عزيز يخسرهُ إلَّا جاههُ وأموالهُ وكبرياءهُ، ونحن دا الحَ نعملهُ بالضبط، حَ نضربهُ في اليدّ البتوجعهُ، ونكسرها لهُ تمامًا.
تنّهدت تنهيدةً قصيرة:
_ شُوفوا، خُطّتي كالتالِي، بعدين لو عندكم أيّ إضافات الموضُوع عندكم، عُثمان، أنا حَ أصطحبك معاي لشركة الفَارُوقِي بُكرة إن شاء الله المساء، حَ نفتِّش عن كُلّ المُعاملات والأوراق البتخص تعاقداتهُ وصفقاتهُ، غيابهُ دا الفُرصة الأكبر بالنسبة لنا، إلَّا ما نلقى لنا مُعاملة أو صفقة تدخِّلنا فِي ثغرة قانُونيّة، نحن حَ نوسّعها، ونبدأ نساعد الطرف الآخر للمُعاملة، برفع دعوة رسميَّة على شركتهُ، وأنت أدرى منِّي فِي الحاجات دِي.
عقدَ "عُثمان" حاجبيهِ:
= طيّب، أسهِّل عليك، أنا بعرف شركَة استغلّاها الفَارُوقِي لمنصبهُ، اسمها لاندَا.
ضيّقت عينيها بحماس ولاحَ شبحُ ابتسامةٍ ماكرةٍ على شفتيهَا:
_ تمام، إذن حَ نفتّش أوراق المُعاملة مع الشركة دِي، حَ نرفع دعوة رسميَّة باسمهم ونقيف فِي طرفهم، طبعًا أوراق المُعاملة حَ تكُون دليل قوي جدًّا بين يدينا، وما حَ يعرف إنَّك أصدرت ورقة الدعوة تحت توقيعك، ما حَ يعرف أساسًا إنَّنا وراء الموضُوع، لحدّ ما يجي السُودان.
_ ويمكن ما يجي؟ الفَارُوقِي أخبث شخص فِي العالم وعادِي يحلّ المُشكلة دِي من بعيد بمُحامي فقط!!
قالهَا "فارِس" وهُو يُطالع ثباتَ جسدهَا وهدوء أعصابها، ضيّق عينيهِ عندما لاحَ منها شبحُ ابتسامةٍ ساخرة ونبست بثقة:
_ لأ حَ يجي.
أردفت وهِي تُطالعهُ:
_ عارِف ليه؟ عشان هُو شخص مهووس ومرِيض بالانتقام، مُستحيل يعدِّي الشغلة من غير تدخُّل دموِي، ومُواجهة يثبت فِيها إنّهُ هُو الراجل وهُو الآمر والناهِي.. أنا الفَارُوقِي درستهُ كُويِّس، بعرف هوسهُ بالانتقام مُمكن يخلِّيهُ يعمل أيَّ شيء، نحن ما بس حَ نرفع دعوة، وحَ نرفق معاهَا تهديد يستفزّهُ، وزي ما أنا شايفاك قدّامي، بقُول لك حَ يجي.
ارتفعَ حاجبها:
_ وهوسهُ بالانتقَام دا حَ يوقّعهُ فِي شرّ أعمالهُ، ماف واحد فِيكم حَ يتهوَّر ويدخّل إيدهُ عشان ينتقم، فِي ربّ عظيم حَ يحاسبهُ، وقانُون يقتّص لينا منّهُ.. وأنا بحذّركم الاتنين، تهوُّر لأ، ماف واحد يحاول يلوّث يدّهُ بدمّهُ ويدخل فِي حساب مع ربَّنا.
زفرَ "عُثمان":
= طيِّب؟ القانُون حَ يتدخّل كيف بدُون أدلَّة؟
_ حَ يتدخّل، والأدلَّة موجُودة، عندِي تسجيل صوتِي ليهُ من قبل الطلاق، كان سكران، وأنا قدرت أستدرجهُ وأستخرج منّهُ حقيقة أعمالهُ القذرة، منّها عرفت إنّهُ قتل خالتُو سارية، بس ما عرفت السبب، وقتل أبُوي، وبرضهُ ما عرفت السبب، وأشياء كثيرة شديد.. لكن القانُون قد ما يعتمد الأدلَّة المُسجّلة تحت فقدان الوعِي، التسجيل دا كان الهدف منّهُ معرفة الحقيقة، إنّما الدليل الحَ يتقدَّم للشُرطة، حَ تقدّمهُ أنت يا فارِس، لأنَّك عارف كُل شيء عنّهُ وكُل أدلّتك ضدّهُ قويَّة.
_ أنتِ حَ تأدِّبيهُ، منُو قال ما حَ تأدّبيه؟
زفرَ واستطرد:
_ رسيل، زي ما أنَا شايفك قدَّامِي حاليًّا، مُتأكّد من إنِّك حَ تقدري تكسري شوكتهُ وما حَ يقوم من أرضهُ تانِي، أنتِ أقوى إنسانَة أنا عرفتها فِي حياتِي، تتذكَّري؟
شمَّر كمّ قميصهِ لينكشفَ العقد المربُوط بذراعهِ، وتسترجع هِي لحظَة اهداءهَا إيّاهُ:
_ قُلتِ لي شنُو وقتها؟ قُلتِ لي خلِّيها معاك، عشان تذكّرك إنّهُ فِي وجه جوَّاك بيشبهها، والحقيقة كانت خريطَة رُوح، ما مُجرّد سلسلة يا رسيل، أنا قدرت بسببها أؤمن بالوجه السماوي الحضرتك اتحدّثتِ عنّهُ ساعتها، اتغلّبت على ضعفِي وطلعت فِي وشّ الدُنيا دِي من تاني، طلعت فارِس ما بيعرفهُ أيِّ شخص، غيري أنا والعقد دا، لكِن كُل مرَّة أنظر داخلهُ، بفتّش عن الشمس الأنَا كُنت بكرهها وبحارِب فِيها.. وعارفَة اكتشفت شنُو؟
رفعت عينيهَا إليهِ وابتسمَ هُو بالمُقابل مُواصلًا حديثه:
_ اكتشفت إنّهُ الشمس هِي صاحبتهُ نفسها، هِي الشمس، هِي السلام، والغايات فِي عينيها مُدركَة.
خفقَ قلبها عندمَا اتّصلت عينيهما مع بعضها بنظرةٍ طويلة بعض الشيء، هربت بنظراتها نحوَ الأرض وحاولت سحبَ يدهَا منهُ، لكنّها وجدتهُ يتمسّكُ بها أكثر قائلًا:
_ كسُوف الشمس ما بيطُول، وأنتِ نُور ونار يا رسيل، الفَارُوقِي إذا جرَّب يلعب بنُورك، نارِك حَ تطولهُ.
اتّكأ بظهرهِ على الأريكة، أغمضَ عينيهِ ليتنهّد تنهيدةً قصيرةً مُتعبة، وتركَ المجالَ للكلماتِ العالقةِ بحلقهِ لتخرج:
_ أنا مرتِي ما اتخلق البستضعفها.
تركت الكلماتُ الأخيرة صدًى ورنينًا بأذنها، سرَى شعورٌ دافئٌ بينَ أوصالها، خفقَ قلبهُ كأنّهُ يِرفرف لوهلَة، سكن خوفها عندهُ، وابتسمَت ابتسامةً لطيفةً شقّت طريقها إلى ثغرها وسط دمُوعها الغزيرة، فتحَ عينيهِ وهُو يشرحُ لهَا خُطّتهُ:
_ تتذكَّري ساعة ما رجلك اتعتّرت بالجُمجمة فِي بيت الفَارُوقِي؟ ووقتها طلبت منّك تحتفظي بصُور الجُمجمة؟
اومأت بقلق، تابعَ هُو:
_ وقتها كُنت عايزة أستخدم الصُور كدليل ضدّ الفَارُوقِي، لكِن اليُوم أفادتني وبشكل كبير.
عقدت حاجبيهَا بعدمِ فهم، زفرَ:
_ الداير أقولهُ ليك، بيت الفَارُوقِي داك أخبث مكان مُمكن يكُون موجُود على الأرض، الجُمجمة ديك كانت تابعة لجُثَّة، واحدة من ضحايا أفعالهُ البشعة، وما الجُثّة دِي بس، اتوقّعي عادي تلقِي مقبرة تحت أرض بيتهُ، أسهل ما يكُون عندهُ القتل وموهبتهُ إخفاء الجريمة بطريقة ماكرة، وطبعًا حسب المعلُومات العندي عن الفَارُوقِي، وقت تنفيذ الجرائم عندهُ غالبًا ما يكُون فِي الظلام، في الليل يعني، ودا عند غالب المُجرمين طبعًا، بتلاحظي بيتهُ كُلّه منوِّر، ما عدا الحدِيقة!
تذكّرت التساؤل والشكُوك التِي دارت بعقلها عندمَا لاحظت ذلك، استطردَ:
_ الحدِيقة دِي زي ما قُلت لك دافِن فِيها أيّ مُصيبة، وهُو جرائمهُ مُرتبطة بوقت حلُول الظلام، لكِن النجس مُستحيل يحسّس الشخص بشيء زي دا.
تنحنحت لتسألهُ:
= وأنت عارف دا كُلّه وكُنت عايش جوَّة بيتهُ كيف لوحدك؟
_ قالُوا الفأر مُمكن يتوقّع القط قريب منّهُ، لكن مُستحيل يتوقّعهُ جوَّة جحرهُ، كُنت عارف الفَارُوقِي ما حَ يشك ولا بنسبة 1٪ إنّهُ عدوّه مُمكن يكُون قريب منّهُ للدرجة، أيوا مُمكن يشك إنّهُ حولهُ فِي مكانٍ ما، لكن جوَّة بيتهُ، أشبه بالمُستحيل، رغم إنّهُ شخص شديد الذكاء، لكن الفَارُوقِي عُمومًا أيِّ شيء بيخصّه فِي يدِّي.
= كُنت بتترصّد له؟
_ أيوا، مُمكن تقُولي كدا.. المُهم، أنتِ حَ تنفِّذي القال لك عليهُ.
توسّعت عينَاها بصدمةٍ وهزّت رأسها بعناد:
= مُستحيل طبعًا.
_أسمعِيني للآخر.. أنتِ حَ تعملي القال لك عليهُ، لكِن ما حَ يكُون حقيقي، حَ تشيلي المُسدّس، وتوجّهيهُ نحوِي، لكن المشهد لازم يكُون فِي ظلام جُزئي، عشان يصدّق تمامًا إنّهُ حصل، والفَارُوقي أدرى بهوسِي بالظلام فما حَ يستغرب، وعادِي مُمكن أجيب أيَّ ملوِّن أحمر على أساس إنّهُ دم، المُهم، لازِم تصوِّبي المُسدّس لكن ما نحوي، فِي أيّ إتّجاه تانِي بحيثُ يظهر لعيونهُ المراقبانَا إنّه اتصاوبتَ، وبالتأكيد أعيانهُ ديل حَ يصوّروا لهُ المشهد مُباشرةً، وبالتالِي في الظلام داك ما حَ يظهر إنّهُ كان دم حقيقي ولا ملوِّنات ولا غيرهُ، لكن المشهد لازِم يظهر حقيقي جدًّا.. بحيثُ يصدّق فعلًا إنّك قتلتيني، ويصرف عيونهُ عنّنا.
= ولو الطلقة أصابت بالفعل؟ أنا ما بعرف أمسك المُسدّس زيّ النّاس حتَّى يا فارِس.
_ أعلِّمك طوَّالي.
صمتت لوهلةٍ ثمّ هزَّت رأسها نفيًا:
= ما تنسَ إنّهُ الفَارُوقِي مُراقب تحرُّكاتِي وكُل مُحيطي، ما لازِم يشُك إنّهُ فِي بيننا اتّفاق ولو بأيِّ طريقة، أنا حَ أخلِّي عُثمان يعلِّمني، والبيننَا دا لازِم يفضَل سر.
_ لكن...
قاطعتهُ:
= أرجُوك أسمع منِّي، أنا بعرف الفَارُوقِي كُويِّس.
رسيل
الحلقة التاسعَة والثلاثُون {39}
بقلم: رحاب يعقوب
{مُورفــينَـــا}
" اعبث بكُلّ شيء، ولكِن إيَّاك وقروحُ امرأةٍ مجروحة، فإنّها عليك حروق! "
❁ على شاطيء النِّيل❁
جوٌّ يعبقُ برائحةِ الحُب، نسماتٌ تُغازل العُشّاق، تشابكت أيدِيهما، اُحيكت همساتهمَا على قلبيهمَا، وتناثرت ضحكاتهما تُزيّن الأرجاء من حولهمَا، نظرت "سُندس" إلى "التُوب" الخاصّ بهَا وعدّلت الوشاح الذي خمّرت بها عُنقها ورأسها، يبدُو شكلها غريبٌ بعض الشيء بالنسبةَ لها، هذهِ المرّةُ الأولى التِي تُطلُّ بها فِي الثوب التقليديّ خارج المنزل، تسائلت فِي حِيرة:
_ عُثمان، التُوب دا حلو معاي بالجد؟ ياخ حاسّاهُ كيف كيف؟
= عشان أنتِ الكيف ذاااتهُ، والتُوب عليك حكاية تانيَة.
"سُندس" بخجل:
_ استحِي نحن فِي الشارع.
قبَّل كفّها واقتربَ من أذنها ليهمس:
= رأيك شنُو نمشِي بيتنا؟
صكّت فخدهُ وقالت بخفُوت:
_ بس بس يا قليل أدب بس، متَى بقى عندنا بيت؟
= من هسِّي.
_ استحمل، مُش براك جبتنِي هنا؟
= آي، لكن ما قايلك بتكُوني حُلوة كدا.
"سُندس" باحراج:
_ بقِّيتنا فُرجة، عُثمان أبعد منّي.
حوّل نظرهُ عن يمينهِ ويسارهِ، نهضَ عن كُرسيّه ومدّ إليها يدهُ مُشيرًا إلى سيّارته:
= يلَّا، أصلًا نظرات النّاس دِي ما عاجبانِي.
حطّت أصابعها فِي كفّهِ وجعَلت تسيرُ معهُ فِي خُطًى هادئةً نحوَ السيَّارة...
❁ فِي المطعم❁
حيثُ أحسّ "الفَارُوقِي" أنَّ صفعةً أصابتهُ عندمَا رآهُ يقفُ أمامهُ وبكاملِ صحَّتهِ، بل حتّى لم يُصبهُ أدنى خدش، حوّل نظراتهُ التِي تمتزجُ بينَ الصدمةِ والغضبِ إلى "رسيل" التِي تجلسُ بهدوءٍ وتقاطيعُ وجههَا تقطرُ بالنّاريةِ والشراسة، نظرَت إلى "فارِس" الذِي بادلهَا ذات النظراتِ وقد تزامنت ابتسامتهُ الماكرةَ مع ابتسامتها المُستفزّة فِي حينٍ واحد...
❁ فلاش باك _ Flash back❁
" قبل ستّةِ أيَّام"
أشعلَ سجارتهُ ووقفَ عند نافذةِ غُرفتهِ يُفكّر، نفخةٌ تلو الأخرى وبالهُ لا يزالُ عالقًا عندهَا، هَل ما تفوّه بهِ من كلمات هُو سبب تألُّمها بتلك الطرِيقة؟ أم هُنالك سببٌ آخر لا يعلمهُ، نظر إلى شاشةِ هاتفهِ الذي صدحَ برنّة إشعارٍ سريعَة، التقطهُ من على "الكمُودِينة" ونظرَ إلى الرسالةِ التِي احتوت على كلماتٍ غريبة نوعًا ما:
" فارِس، أنا مُحتاجة أقابلك، ضرورِي"
اطّلع على جهةِ الاتّصال فوجدهَا غير مدوّنةٍ باسم، أيّ ليست من ضمن قائمةِ جهات الاتّصال بالجهاز، تجاوزَ الرسالةَ ليجدَ عدّةُ رسائلٍ من "أسمار" مضمُونها:
" فارِس، تعال عندِي بالبيت مُحتاجاك ضرُورِي".
" أنا عارفاك حَ تقرأ الرسائل وكعادتك حَ تسفه يا ثقيل، لكن أرجُوك، بس المرَّة دِي".
" عندِي موضوع ضرُورِي معاك".
تجاوزَ الرسائلَ أيضًا وحشرَ الهاتفَ فِي جيبهِ، أخذَ سُترتهُ من شمّاعةِ ملابسهِ وغادرَ غُرفتهُ بهدُوء بعد أن قذف بالسجارةِ إلى السلَّة، استوقفهُ نُور غُرفتها المُنبعثِ إلى هذا الحِين، أخرجَ هاتفهُ وبدأ يُكبّس عليهِ ويشدّد انتباههُ معهُ، خرجَ من المنزلِ سريعًا وهُو على الحالِ نفسهُ، لم يلفت انتباههُ إلَّا الجوُّ المُمطر، تابعَ طريقهُ حتَّى وصلَ إلى شِقّة "أسمار" التِي تقبعُ بإحدى أفخم العمارات، قرعَ الجرسَ مرَّةً ووقفَ ساكنًا ينتظرُها، فُتح البابُ وقد فغرت فاهَها عندمَا رأت الماء يقطرُ من حوافِ ملابسهِ وأيّ شبرٍ فِي جسدهِ، مدّت يدها لتسحبهُ سريعًا وتُغلق الباب:
_ يا مجنُون، جِيت فِي الجو الماطِر دا برجليك؟
خلعَ سُترتهُ عنهُ راميًا بها على الأرض وسحبَ سجارةً أخرى من جيبهِ ليُشعلها وقال:
= أممم.
وجدَها تنزعُ منهُ السجارةَ فجأةً وتقذفها إلى السلّةِ لتزجرهّ على فعلتهِ:
_ فارِس، جنِّيت، من متى بتدخِّن؟
مسحَ وجههُ وهُو يستغفرُ الله بخفُوت، وضعَ يديهِ على رأسهُ وقال بنفادِ صبر:
= أحكِي يا أسمار، عايزة شنُو؟
_ أقعد كدي حَ أجيب ليك شيء تغيِّر ملابسك دِي، وبعدين نتفاهَم.
= دايرانِي ألبس ملابسك؟؟
ابتسمت:
_ لا يا ذكِي، معَاي شويَّة من ملابس بابا ربّنا يرحمهُ، مُحتفظة بيهم للذكرى، حَ أجيب لك واحدة تلبسها.
أسرعَت باحضارِ الملابسِ إليهِ ومدّتها نحوهُ وهِي مُبتسمَة، نظر إلى القُنيّةِ الطبيّةِ على يدها ثمّ رمقها بحدّة:
= طالعة من المُستشفى بحالتك دِي؟
_ عارفنِي كُرهتي المُستشفيات، أمسك وأمشي غيّر عليك الله.
تناولَ الملابسَ من يدهَا وهُو يستغفر، ضحكت خفيفًا وأسرعت إلى المطبخ لتُحضّر العشاء، قُرع الجرس مرّةً ثانيَة ممّا أثارَ شكّها وحيرتها، نظرت إلى ساعةِ الحائطِ المُقابلة لها وهِي تتسائلُ باستغرابٍ، من قد يزورها فِي هذا الوقت؟
انطلقت لفتحِ الباب، فإذا بها تُفاجئ بفتاةٍ لم يسبق لها رُؤيتها من قبل، ولكنّها جميلةٌ فائقةُ الجمَال، كانت مُبللةٌ بالماء تختلجُ أطرافها بردًا، سألتهَا بخفُوت:
_ فارِس هنا؟
اومأت الأخرى وقد عقدت حاجبيهَا بشك، تزحزحت عن الباب مُشيرةً إليها بالدخُول:
= أنا الليلة المساء حَ أكون فِي بيتكم إن شاء الله، حَ أتكلّم مع أخوك وأمِّك فِي الموضُوع دا والقرُوش معاي، الموضُوع دا لحدّ هنا نُقطة سطر جديد، أنا ما حَ أنتظر لحدّ ما المُصيبة دِي تتطوّر وأنتِ حضرة سيَادتك ساكتة كدا.
_ يا رسيل ياخِي ما تخلِّيني أندم...
قاطعتها "رسيل" قائلةً باستدراك:
= وعشان كدا تراك الفترة الفاتت كُلّها تقُولي لي احتمال ما أكمّل الجامعة معاك، واحتمال ما نحقّق...
هزّت رأسها بحركةٍ تُعبّر عن رفضها للفكرة:
= لأ، أنتِ بإذن الله حَ تكمّلي معاي الرحلة دِي ونختمها يد فِي يد فاهمة يا سُندس؟؟
تشبّثت "سُندس" بثوبها كالطفلةِ التِي تشكُو لأمَّها واومأت باستسلام وهي تبكِي، تعلمُ أنّ "رسيل" لا يلينُ عنادها ولا ينصهر إن عزمت على شيء، ارتمت إلى حضنها وراحت تُفّرق أوجاعها المكتُومة بصدرها...
" وكأنّك يا صدِيقي، القطرةُ التِي خاطبت بها عيونُ السماء كتفِي القاحل، فتورّد حُبًّا وسعادة "
❁ باك _ Back ❁
ظلَّت تبتهلُ إلى الله بشأنها، حوالي نصف ساعة أخرى كانت على تلك الحال، فجأةً، أحسَّت بذراعينِ تتوسّطُ خصرها من الخلف، أنفاسٌ قريبةٌ من عُنقها، قبلَ أن تلتفت إليهِ سمعت صوتهُ يهمسُ باسمها:
_ سُندسي.
ياءُ الملكيّة التِي تذيّلت عند نهاية اسمها كانت سببًا فِي نبض قلبها بقوَّة، التفتت إليهِ وقد تزيّن ثغرها بابتسامةٍ حيويّةٍ خجُولة:
= عُثمان.
قبّل خدَّها:
_ مُشتاقين على فكرة!.
دفعتهُ بخفَّةٍ إلى الوراء وراحت تتفحّصُ المكان:
= أرح غُرفتِي، بلاش فضايح أحسن.
ضحكَ خفيفًا ثمّ أجاب مُوافقًا لها:
_ أرح.
تشابكت أيدِيهما بحُبٍّ وتوجّها إلى غُرفتها، ارتمَى إلى الأريكةِ فور وصُولهما بينمَا أغلقت هِي الباب ووضعت وشاحًا أسودًا على رأسها لتجلسَ بجانبهِ:
= كيفك؟
_ كيفي أنتِ.
= بطِّل ياخ.
_ أحكِي، كُنت حاسّك ما على بعضك لمَّا جِيت.
زفَرت:
= ياههُ بالِي مشغُول على رسيل بس، من مُوت سوسن وهِي ما طبيعيَّة.
_ طبِيعي ما تكُون طبيعيَّة، دِي صاحبتها ورفيقتها.
= ربَّنا يرحمها.. بس هِي كمان المرّة دِي اختلفت تُوتلي.
_ أدّيها وقتها وبترجع إن شاء الله.
اومأت:
= إن شاء الله.. تشرب شنُو يا باشا؟
أمسكَ يدها وقبّلها:
_ خلّيك معاي بس، أنا هارِب من موضُوع تشرب شنُو دا.
ضحكت خفيفًا:
= أها أحكِي.
_ سُندس، أنتِ ليه قبلتِ تتزوَّجِيني؟
ابتسمت:
= ودِي دايرة ليها سُؤال؟
_ دايرة واللهِ يا سُندس، أحكِي.
أشاحت ببصرهَا عنهُ وقالت بتأثُّر:
= الإنسان كتير مرّات بتعز عليهُ نفسهُ لمُجرَّد إنّهُ ما يلقى شريك حياة ما مُناسب، بدل ما مشاعرك تزهر معاهُ تذبل، وبدل ما يصنع منّك شخص بأجنحَة يوحّلك فِي الحزن أكثر، بسس...
تنهّدت بأريحيّة وأكملت:
= بس أنت أثبتّ لي إنِّي فعلًا ما غلطانة فِي تعزيزي لنفسي.
أغمضت عينيها لتستشعرَ حُبًّا عظيمًا انساب مع لحن صوتها عندما استطردت:
= زي كأنَّك غيمة صبّت في الصحاري، أنعشت فِيها الضهاري، زي كأنَّك زهرة للصبّار مُحبَّة، أحيتني ريحتك بجواري.
ظلَّ يُمرّرُ ناظريهِ بينَ عينيهَا وحركة يديهَا، أحسَّ بارتواءٍ عظيمٍ يُحيط بمشاعرهِ العطشى بعد كلماتها تلك، أمسكَ يديهَا وقبّلهما بحُبٍّ بالغ وعُمقٍ استشعرَ فيه بدورهِ رائحةَ حُبّها:
_ وتغنّي أسرابَ الطيُور، يا حُبّنا ويا عشقنَا، يا سكَّة الفرح الطوِيل، يا أنقَى من حبّ الندَى.
سحَبت يديهَا بخفَّةٍ ونهضت سريعًا من جانبهِ، لم تتوقّع أن يُبادلها المشاعر نفسها في هذهِ اللحظةَ تحديدًا، تسلّلت حُمرة الخجلِ إلى وجنتيهَا الضاحكتينِ فغلّفت عينيهَا بأصابع يدهَا وهِي تقُول:
= شاعر مُمتاز واللهِ.
قامَ إليها ليحتضنَ خصرها بذراعيهِ ويُقبّل كتفها بشعورٍ يمتزجُ ما بين الحُبّ والحنان ثمّ أجاب:
_ كُلّه بسببك.
التفتت إليهِ وقبّلت خدّهُ:
= فكَّني طيِّب.
_ ولو أبيت؟
= بشكيك لسيَّاف.
_ كُويِّس برضهُ، أبو النسب دا فردتي واللهِ، منّها يتمّ لينا العرس دا سريع.
= عُثمان ياخ.
_ نطلع؟
= هسِّي؟
_ هسِّي وبُكرة وبعدهُ، الله مُش حلالِي كمان؟
= ما كدا كُنت دايرة أمشِي المستشفى ياخ.
_ عالجِي المريض القدَّامك دا أوَّل، مريض بحُبّك.
دفعتهُ بخفَّةٍ وهي تهرب منهُ:
= أمشِي برَّة يا قليل أدب، بجهز دقائق وبكُون عندك...
❁ رُوسيا _ العاصمة مُوسكو❁
نفخَ دُخّان سجارتهُ الأخيرَ وهُو يُحدّق بالنّافذة أمامهُ مُخاطبًا المُمرّض الخاص بهِ:
_ رُوبن، لا أُريد سماع اعتراضاتٍ أكثر.
فتّت قطعة السجارة واستطرد بغيظ:
_ يجبُ عليَّ تأمينُ مُستقبل شركتِي أوَّلًا، هذا الأمرُ يتطلّبُ منِّي أن أُسافر.
أغمضَ عينيهِ وزفرَ مُحاولًا تمالُك أعصابهِ ثمَّ أردف:
_ ستُقلع طائرتي بعد ساعتينِ من الآن، عليّ أن أجتثّ جذُور من يُحاول العبثَ بأملاكِي.
_ الدُر بغوصوا عشانهُ أعماق البحار، فما بالك لمَّا تكُون سُندس اللِّي هي أغلى من الدُر؟
جعَل "سيّاف" يُصفّق ويهتفُ بحماس، بينمَا نثرت والدةُ "سُندس" دعواتها على مسامعهِ وهِي سعيدةٌ بما تسمعُ عن ابنتهَا، احمرّ وجهُ "سُندس" التِي كانت مزيجًا بينَ التوتُّرِ والخجل والفرَح، قالَ "سيّاف" بتتوّق:
_ وأجيبهَا ليك واضحَة، زُولنا دا قال جاي زُول عقد عديل، يعنِي لا خطُوبة ولا غيرهُ، كدا ومن دُون مُقدّمات، تُوشك فِي درب الحلال، باقِي بس رأي أميرتنَا، قُلتِ شنُو يا وزّة؟
سادَ الصمتُ مطوَّلًا، تسرَّبت الدقائقُ بطيئةً من عقارب الساعَة، الجميعُ يترقّبُ إجابتهَا بتلهُّفٍ وقلق، تحوّلت نظراتها إلى أخيهَا وقالت بنبرةٍ صغِيرة:
= آسفة...
عقدَ "سيّاف" ووالدتها حاجبيهما بيأس، أغمضَ "عُثمان" عينيهِ بخيبةٍ كادت تجتاحهُ لولا كلمتهَا الأخيرة:
= أنا مُوافقة، لكِن بشرط، بس يكُون عقد فِي الوقت الحالِي، ما شاعرة نفسِي مُهيّئة الآن لاقامَة الولِيمة أو باقِي مراسم العرس...
❁ منزل فارِس❁
عرقٌ يتصبّب على جبينها وعُنقها وجميع جسدها وسطَ هواء جهاز التكييف البارِد الذِي يُثلج غُرفتها، عينينِ جاحظتينِ تجُوسان بقلقٍ وسطَ الظلام المُخِيف المُحيط بالمكان، جعَلت قطعُ ذلكَ المنظرِ تتجمّع فِي عقلها لتُكمل أحجيةً تودُّ لو أنّها تختفِي للأبد:
❁ فلاش باك _ Flash❁
"قبل مرُور ثلاثةِ أيَّام"
تتناثرُ بُقعُ الدمِ على ثوبهَا، تتشكّلُ هالةٌ حمراء دامية وواسعة حولَ جُثّتهِ، المكانُ يمتلئ برائحةِ الخوف، انقبضَت على نفسهَا وازرقّ لونُ وجهها، كأنّ الدمَ امتصّ منهُ، صاحَت وهِي تهزُّ رأسهَا نفيًا:
_ لأ لأ، فارِس أصحى أصحى.
جعَلت تهزُّ أفخاذهُ الهامدَة، لا حركَة ولا إشارَة، صرَخت صرخةً مُدويَّة:
= فاااارس، لا إله إلَّا الله أصحَى يا فارس.
انطلقت نهنهات البُكاءِ تُقطّع صوتها، وقعت عيناها على ذراعهِ المكشُوف لأوَّلِ مرَّة، حيثُ عقدها لا يزالُ مربُوطًا عليهِ رباطًا وثيقًا هزَّ كُلّ خليَّةٍ فِي جسدهَا، تنسابُ تلك اللحظة على ذاكرتها كأنّها كانت بالأمس:
" خلِّيها معاك، خلِّيها تذكّرك إنّهُ فِي وجه جوَّاك بيشبهها... "
تدفّقت عبارتها الحنُونة تلك فجأةً عليها، نظرت إلى يديها المُلطّختين والمُرتجفتينِ، هزّت رأسها باستنكارٍ وضعف، لا تُصدّق أنّهُ لا يزالُ مُحتفظًا بها كشيءٍ ثمين، كجُزءٍ من جسدهِ لا يُفارقهُ، ارتخَى ظهرها على الأريكةِ التِي خلفهَا، وبدأ العرقُ ينسكبُ على جسدَها بغزارة، تلاشت الرؤيةُ أمامهَا شيئًا فشيئًا حتّى أغمضت عينيهَا...
❁ باك _ Back❁
ارتمت على الفراشِ بهزلٍ ووهن، ورَاحت غارقةً فِي بُكاءٍ مكتُوم وهِي تحتضنُ يدَ "ساجد" النائم بجانبهَا...
❁ منزل العلاوِي❁
حيثُ ضجّ المنزلُ فِي كسرٍ من الثانيةِ بالحضُور والضيُوف، يتوافدُون حاملِين معهم السعادةَ، تعطّر الجوّ فِي غُرفتها بالتوتُّرِ والغبطةِ التي لا يُمكن وصفها، فبينمَا هِي جالسةٌ أمامَ "التسريحةِ" بحِيرة:
_ معقُولة؟ العرُوس لحدّ الآن ما جاهزَة؟
التفتت إلى الصوتِ الدخيلِ بينهَا وبين توتّرها، ابتسمَت وهِي تقومُ إليها لتُعانقها:
= نُوني.
التوت شفتَا "نُون":
_ ياختِي حُبّك اتغيّر، معقُولة اتفاجئ بعقدك كدا هُوببا من دُوم سابق علم؟
ضحكت "سُندس":
= واللهِ علمِي علمك، أنا ذاتي مُتفاجأة.
_ حنككم البِيش الواحد دا غيّروهُ.
= واللهِ بكلّمك جد، اليُوم جاء اتقدّم لي، وفجأة لقِيت رُوحي داخلة فِي ضوجة العقد دِي، عشان كانت رُؤية شرعيّة لعقد.
عانقتها "نُون" بفرح:
_ واللهِ ما تصدّقي أنا هسِّي فرحانَة كيف، ياخِي نحن واقفين ليه؟ الليلة كان ما عقلهُ طار فِيك ما يبقى اسمِي نُون.
= بتّصل لرسيل ودِي المرّة المليُون، جوّالها مُغلق، بالِي مشغُول عليها، هِي كُويِّسة يا ترى؟
_ بجرّب أتّصل عليها منأمس عشان اطمئن عليها، وماف رد، الله يستر يا رب.
= نحاول تانِي بعد شويّة، لازِم تجي هِي أهمَّ زُول.
_ أكيد طبعًا، أنا ما حَ أسيبها تصبر لي بس...
مرّت الساعاتُ خفيفةً تُجرجر أذيالَ الفرحِ والحُب، مزيجٌ من المشاعر تناثرت من قلُوب الحاضرينَ لحظةَ انطلاق "الزغرودة" الأُولى، دليلًا على أنّ قلبها قد انعقد بقلبهِ، وارتبطَ اسمها باسمهِ أمامَ الله ثمّ عبادهِ...
" الغيُوم العاقرَة، أمطرت اليومَ إذنًا لمساماتِ وجُوهنا بأن تُزهر، أزهارٌ تتنفّسُ السعادة القابعةَ بصدرنَا، وتتغذّى على لمعةِ عينينَا التِي تسنّت بسُنّةِ الشمس "
يُتّبع...
رسيل
الحلقة السابعة والثلاثُون {37}
بقلم: رحاب يعقوب
{مُورفــينَـــا}
❁ بعد مرُور ثلاثةِ أيَّام❁
" رُوسيا _ العاصمة مُوسكو "
يتجوّل فِي حدِيقةِ المشفَى برفقةِ المُمرّضِ الخاص بهِ، يحتسِي من الـ "مغ" بعضًا من الشرابِ اللاذِع الذِي أمرهُ بهِ الطبيب، تستقرُّ على ثغرهِ ابتسامةٌ غرِيبة، مُرِيبةٌ بعض الشيء، ولكنّها تبدُو مُبهجةٍ بالنسبةِ إلى طبيبهِ الخاص، كعلامةِ تُشير إلى تحسُّنِ صحّتهِ النفسيّة ممّ سيُسهم فِي سُرعةٍ استجابتهِ للعلاج وتقدّمهِ، قالَ بهدُوءٍ نسبيٍّ انساب من صوتهِ مُخاطبًا المُمرّض:
_ إذا سمَحت، هل يُمكنك خدمتِي فِي أمرٍ صغِير؟
اومأ الآخرُ وأجابَ بنبرةٍ مرحَة:
= نعم بالتأكِيد، أخبرنِي فقط.
_ أريدُ هاتفِي، لديّ مُكالمةٌ ضروريّةٌ يجبُ عليّ إجرائها.
= بالتأكِيد، تفضّل.
التقطَ الهاتفَ بسُرعةٍ وهُو فِي حماسٍ ليتّصل بها، يسمع صوتهَا المذعُور، المُنكسر، يُريد أن يرى تفتّت حصنهَا المنيعَ وذُبول صوتهَا وعينيها، فلا يُشبع شعورهُ بالانتقام إلَّا ذاك...
❁ فلاش باك _ Flash back❁
" قبل مرُور ثلاثةِ أيَّام"
كانَ يُطالع الشاشةَ بتدقيقٍ، ينتظرُ ردّها على المُكالمةِ الخامسةِ على التوالِي، يتعطّشُ لرؤيةِ وجهها الواجِم، وتفاصيلُ هزيمتها النكراء، أخيرًا فُتحت الكامِيرا بعد استقبالهَا للمُكالمةِ بثوانٍ، انخرطَ فِي موجةِ ضحكٍ ساخرة وهُو يُشاهد وجهها المُلطّخ بالدم عبر الشاشة، تبدُو وكأنّها كانت تُنازع شيطانًا يتلبّسُ روحها، جحُوظ عينيهَا كأنّهما ستخرجان من محجرهما، تصلُّبِ فكّها، تجمُّدِ جسدهَا ما عدَا حدقتيها اللتينِ تجوسانِ بوجلٍ وهلع بينهُ وبينَ شيءٍ آخر، كمَا توقّع فإنّها جُثّتهُ، وقّع كلماتهُ بنبرةٍ ماكرةٍ مزّقت صمم أُذنها الذِي شعرت بهِ لوهلة:
_ دم.. خُوف.. انهيَار، ما أسعدَ الفَارُوقِي اليُوم يا رسيل.
أردف وهُو يتنحنح بصُوتٍ عالٍ:
_ الليلَة، أنا وأنتِ بقينا مُتساويين، إذا أنا قاتِل، أنتِ قاتلَة، الدم بالدم، والواحد ذااتهُ كدا أرتاح من دُور الشرِيف الرضِي الكُنتِ مُركّبَاه وعَاملة بيهُ دوشَة دا.
ارتشفَ من كأسِ العصيرِ الذِي بيدهِ اليُمنى وواصَل بنبرةٍ تقطرُ حقدًا:
_ وأرتاح من أكبر عوارضهُ، فارِس كان فاكِر نفسهُ ملك زمانهُ، ونسَى إنّهُ الملِك فعلًا هُو البيضرب فِي اللحظَات الأخِيرة، والرُقعة البيضَاء الختّ نفسهُ فِيها، هِي أخطر مكان بالنسبة ليهُ.
تابعَ بفحيحٍ مُخيف بعد أن احتّدت نظرةُ عينيهِ:
_ عشان كدا "كِش ملك".
اهتزّ جسدهَا بحركةٍ طفيفةٍ دليلًا على أنّ أغلال الهلعِ التِي كانت تُصفّدها قد انكسرت عند نُطقهِ لكلمةِ "كش ملك"، صاحَت بفجَع وهِي تعِي جسامةَ الخطب الذِي أمامهَا:
= مات، فارِس مات، كِيف يعني مات؟؟؟!
ضحك "الفَارُوقِي" ضحكةً مطوَّلةً ثمّ أجابَ:
_ قتلتيهُ أنتِ، طوَّالي كدا صابك زهايمر؟
هربت من عينيهَا قطراتُ دمُوعٍ أسفرت عن انهمالٍ غزيرٍ سيعقبُ حدِيثها:
= قتلتهُ أنت، أنا ما قتلتهُ، ما قتلتهُ.
صرخَت صرخةً مدويَّة:
= الله ينتقم منَّك، الله يقهرك، خلِّيتني مُجرمة، الله ينتقم منَّك...
أردفَت بنبرةٍ ضعيفةٍ:
= الله ينتقم منَّك، الله ينتقم منّك يا الفَارُوقِي.
ارتفعَ حاجبهُ بملل:
_ خلَّصتِ؟
زفرَ قبل أن يُردف:
_ كان لازِم يحصل، لازِم أخلِّيكِ تنهاري وما تقُومي من أرضك، اخترتِ تعادِي الفَارُوقِي وما حسبتِ حساب لساعَة زي دِي، وما اتولد اليعادِي الفَارُوقِي ويخلّيهُ يخسر.
كزَّ على أسنانهِ بغيظٍ مُستطردًا:
_ وهُو كان لازِم يمُوت.
واصَل ببرُود:
_ أعمَل ليهُ شنُو؟ ما اتّعظ من تجربة أبوهُ وقرّر يخت يدّهُ فِي النار لوحدهُ.. هسِّي أنا حَ أخلِّيك تلملمِي باقِي شتاتك، وتخفِي زي الشاطرة آثار الجرِيمة وتدفنِي الوسخ القدّامك دا، أكيد طبعًا ما حَ تحبّي الشُرطة تقبض علِيك وتقضّي باقِي حياتك فِي السجن.
ابتسمَ بخُبثٍ وهُو ينطقُ آخرَ كلماتهِ:
_ شُكرًا، كُنتِ أداة قتل رائعة، مع السلامَة، إذا بقى فِيها سلامة أصلًا...
أغلقَ الكاميرا ناهيًا للمُكالمةِ وعلى ثغرهِ ابتسامةُ تفوحُ برائحةِ الشرّ وتستقرُّ على عينيهِ نظرةٌ ماكرة، يستلذُّ برائحةِ الموت التِي تنبعثُ إليهِ من بُعد بلادٍ وبلاد...
❁ بَاك _ back❁
تفاجأ باتّصالاتٍ عديدةٍ فائتَة على "واتساب"، وكان مصدرها رقمًا غريبًا غير مُدوَّنٍ على الهاتف، عقدَ حاجبيهِ باستغراب وهُو يردُّ على الاتّصالِ الأخيرِ الذِي وردهُ من ذات الرقم:
_ ألو.
= ألو، أ. الفَارُوقِي.
استدركَ نبرة صوتِ مُساعدهِ التِي يعرفها جيِّدًا:
_ ناظِم.
أردفَ بنبرةٍ صارمةٍ:
_ أنا مُش قُلت على الواتس الخاص محظُور على أعمال الشركَة؟ ليه ما اتّصلت على الرقم الخاص بالشركة؟
أجاب الآخرُ سريعًا:
= ياخِي واللهِ اتّصلت على رقم الشركة أكثر من 16 مرَّة وماف رد، فاضطرّيت اتّصل على رقمك الخاص.
_ وشنُو الموضُوع الضرُوري دا؟
وتُناظر وجههُ بسخط، نطق بهدُوء:
_ رُغم إنّهُ اتأخّرتِ، لكن أنتِ فداك وقتِي وكُل شيء.
التقطَ يدهَا الباردةَ وقبّلها بعشق مُستطردًا:
= نطلب شنُو؟
سحَبت يدهَا بسُرعةٍ وقالت بارتباك:
_ اللِّي تحب.
= أنا بحبِّك أنتِ لكن!!
زفَرت بضِيق:
_ آصف، رجاءً أنا ما عندِي وقت.
= عاينِي، ما هُو لو ما عندم وقت مفرُوض يبقَى عندك وقت، أنتِ قريبًا حَ تكُوني لي.
" دا لو طلعت برَّة الليلة."
التفتَا إلى الصوتِ الدخِيل بينهمَا، فإذا بعينيهِ تتّسعُ من الدهشةِ ويتراجع خطوةً إلى الوراءِ باجفَال، نطقَت "سُندس" بخفُوتٍ وقد توهّجت عينيها:
_ عُثمان.
صاحَ "آصف":
= الجابك شنُو أنت؟
أمسكهُ "عُثمان" من تلابيبِ ثوبهِ وجعَل ينفضهُ بغضب:
_ جابتنِي تفاهتك يا نذل يا حقِير.
أردفَ وهُو يفكّهُ بقوَّة:
_ ياخِي أنت مصنُوع من شنُو؟ فاكِر بنات النّاس لعبة رخِيصة عندك عشان تمشِّيهم على كِيفك؟
= يلعن...
لفّ "عُثمان" أصابعهُ حولَ عُنقهِ بشدّة وكزّ على أسنانهِ بغيظ:
_ وقسمًا تبقَى راجِل وتتمّها إلَّا نتلاقَى عند ربّ العالمِين.
"آصف" باختناق:
= فكّنِي يا حيوان.
تدخّلت "سُندس" بفزع:
_ عُ عُثمان سيبهُ، ما تلوِّث يدّك بيهُ.
قذفهُ "عُثمان" بقوَّةٍ إلى الوراءَ وارتفعَ حاجبهُ بحنق:
_ دا أرخص من إنِّي أدخل النّار بسببهُ.
أردفَ وهُو يُهدّئ نبرتهُ:
_ بنات النَّاس ما لعبَة، دِي خلِّيها معاك باقِي عُمرك الحَ يكُون كُلّه ندم.
استطردَ وهُو يرفعُ حاجبهُ:
_ والجواهِر ما بياخدُوها الرُخاص، عشان كدا عُمرك كُلّه ما تفكّر فِي سُندس.
استشاطَ الآخرُ غضبًا:
= أنت غبِي ولا شنُو؟ علاقتك بسُندس شنُو أنت؟
_ دِي ما حاجَة بتخصّ المساجِين.
عقدَ "آصف" حاجبيهِ باستغراب:
= شنُو؟
ابتسمَ "عُثمان" ابتسامةً جانبيّةً ماكرة وجعَل يُنادِي:
_ يا جنابُو.
في غضُّونِ دقيقةٍ كانَ "آصف" رهنَ الاعتقَال، توجّهت أنظارُ الجميع حولهم، ازدردت "سُندس" رِيقها وطأطأت رأسهَا بخجلٍ من الموقف، أشارَ "عُثمان" لهَا باتّباعهِ فاستجابت لهُ وذهَبت وراءهُ تزفرُ بارتياح...
❁ فلاش باك _ Flash back❁
"قبل ساعة"
خرجت بخطواتٍ بطيئة من غُرفةِ "العمليات الصُغرى"، قذفت بالقُفّازاتِ الطبيّةِ التِي كانت ترتدِيها في السلَّة، وتوجّهت إلى حمَّام المشفَى لتغسلَ يدهَا، غسلت وجههَا وجعلت تنظرُ فِي المرآةِ لأوداجها المُنتفخةِ من كثرةِ البُكاء، نزعت الكمّامة التِي كانت تُخفي ملامحها وراءهَا وأفلتتها من يدها، ماذَا عليها أن تفعَل بشأنِ هذا المهووس الذِي يُسمَّى" آصف"؟
يعزُّ عليهَا أن تنصاعَ لهُ وهِي تبغضُ النظر لوجههِ حتَّى، ولكنّها تعلمُ أنّ جنونهُ سيتجاوزُ جميعَ الحدُود المسموحَة، ويستبيحُ المحظورات ليحصلَ عليها، لن يستسلم لفكرةِ خسرانها بتلكَ السهُولة، ماذا إن أخبرت "سيّاف"؟
عادت كلماتهُ تعتصرُ بعقلها:
" وما تحاولِي تتذاكِي وتعملِي فِيها مُفتّحة تكلِّمي أخُوك... "
تعلمُ أنّهُ لن يتفوّه بشيءٍ عبثًا، سيُؤذيهِ بالتأكِيد، ولن تتحمّلَ أن يُصيب خدشًا أخاها، وإن علمَ "سيّاف" سيرتكبُ بهِ جريمةَ قتلٍ دُون تردُّد، كلا الحالتينِ لن تزيدَ النّارَ إلّا نفخًا، زفَرت بضيقٍ وخرجت إلى مكتبها وهِي تُحاول تخفيف حدّة أفكارها، تفاجئت بالجالسينِ أمام طاولتها وواضحٌ أنّهما كانَا فِي انتظارهَا:
_ رسِيل؟ عُثمان؟
قامَت "رسِيل" إليهَا وعانقتها بتلهُّفٍ وقلقٍ واضحٍ على وجهها:
= أنتِ كُويِّسة؟.. ليه ما بتردِّي على تلفُونك؟؟
"سُندس" باستغراب:
_ كُويِّسة الحمدلله يا حبيبِي، بس مالك قلقانَة كدا؟
انفكَّت "رسيل" عنهَا وتراجعَت لتجلسَ على كُرسيّها ثمّ لفظت بهدُوءٍ:
= ياخ مالِك ما بتردِّي على تلفُونك؟
_ بسم الله عشان شغّالة بس، وأنتِ عارفانِي من زمان لمَّا أكُون شغّالة بصمّت مُوبايلي فما شُفت المُكالمات، آسفة يا رُوحِي عايزة شيء؟
= ما تغِيبي عن مُوبايلك ولا لحظَة، بس دا العايزاهُ.
اقترَبت "سُندس" لتُقبّلها على جبينهَا وتخفّف من وطأةِ الذُعرِ والحُزن التِي اجتاحتها ليلةَ الأمس، جلست خلفَ طاولتهَا وتنهّدت بقلق، عقدَت "رسيل" حاجبيهَا باستغرابٍ:
= سُندس، فِي شنُو؟
_ ولا حاجَة.
توجّهت نظراتُ "عُثمان" إليها بعدمِ اطمئنان قبل أن يُخاطبها:
_ رجاءً، لو فِي أيّ شخص ضايقَك أو أيَّ شيء اتكلّمِي، رجاءً.
جوَّلت نظراتها بينَ وجهيهما باستغراب، هزَّت رأسهَا باستغراب:
_ مالكم أنتُوا؟ خايفِين كدا من شنُو؟
نظرَ "عُثمان" و"رسيل" إلى بعضهما بطريقةٍ أثارت شكّها أكثر، كأنّهما يتبادلان الأفكار لحظتهَا، أغمضَت "رسيل" عينيهَا وقالت بنفادِ صبر:
= أعملي زي ما بيقُول لِيك، عليك الله اتكلَّمِي يا سُندس.
أغمضت الأخرى بدورها عينيهَا وضغطت عليهما بسبّابتها وابهامها، وأخيرًا قرّرت البوح لأنّها أحسّت أنَّها أحوجُ ما يكونُ إليهِ في هذهِ اللحظَة:
_ تتذكَّرِي آصف يا رسِيل؟
= المهووس؟
رسيل
الحلقة السادسة والثلاثُون {36}
بقلم: رحاب يعقوب
{مُورفــينَـــا}
_ كِيف؟
طالعَت ملامحهُ المبهُوتة بهدُوء، أطرقَت لثوانٍ ثمّ نطقت:
= لازِم أتحرّك، ما بقدر أكُون واقفَة وأنا بخسَر فِي النّاس العزِيزة علي وأنا مُكتّفة.
_ أنتِ حَ تنصاعِي للفَارُوقِي وحَ تنفّذي طلبهُ؟ حَ تقتلي فارِس يا رسِيل؟ عايزَة تبقِي مُجرمة؟
أغمضت عينيهَا وهِي تزدردُ عبرةَ حلقها ثمّ نبسَت بخفُوت:
= عُثمان، حَ تعلِّمني ولا لأ؟
_ واللهِ لو للغرض الفِي رأسِي دا، ما حَ أفكِّر أوافِق بالأصل.
رمقتهُ وسطَ دمُوعٍ تكدّست فِي عينيها:
= عُثمان، أرجُوك أفهمنِي، أنا مُحتاجة أتعلّم السلاح ضرُوري ما تضغط علي شدِيد.
_ هه، ودِي أنتِ الكُنتِ بتكرهِي تشُوفِي المُسدّس فِي يدِّي؟ وبتكرهِي أيَّ حَاجة بتتعلّق بالسلاح؟!
كزَّت على أسنانها وأجابت بحنق:
= ولا زلت بكرههُ، بس هسِّي أنا مُضطرّة أتعلّمهُ، أرجُوك اتفهّمنِي ما قادرة أشرح أسبابِي.
_ ولِيه ما قُلتِ لفَارس يعلِّمك؟ أعتقد إنّهُ عندهُ معرفَة وثِيقة بالأشياء دِي بما إنّهُ ابن أحد أعداء الفَارُوقِي.
انتفضَت بغيظٍ واحتدّت نبرتهَا:
= ياخِي أنَا ما لي شغلَة فِي فارِس، أنا جِيتك على أساس أنت بتثق فِي قراراتِي وجِيتك على أساس حَ تقدر تتفهّمني.
أردفَت بنبرةٍ مُرتخيَة عبّرت عن وهنِ رُوحها:
= بس الظاهِر أصلًا ماف زُول بيقدَر يفهمنِي.
احساسٌ بالذنبِ غمرهُ لحظةَ رُؤيتها حزينةً وقد أضفَى عليها مزيدًا من الحُزن بكلامهِ، زفرَ بضيقٍ:
_ ما قصَّة إنِّي ما بثق فِيك، أنتِ أكتر زُولة بثق بقراراتها وأنتِ عارفَة.
تنهّد واستطردَ:
_ لكِن دايرَاني أتفرّج عليكِ فِي سُكوت وأنتِ بتعملِي فِي حرام؟ وأنتِ الأصلًا خلِّيتينِي أعرف أميِّز بين الحرَام والحَلال؟
زفرَ وهُو يهزُّ رأسهُ:
_ صعَب جدًّا، يا رسِيل.
تنفّست بعُمقٍ وزفرتهُ بهدوءٍ قبل أن تقُول:
= لو أنت عارفنِي بالجد، ما مفرُوض تشكّك فِي قراراتِي ولا للحظَة.
أردفَت وهِي ترمقهُ ببرُود:
= أنت لوحدَك قُلت لي المرأة شرَك صح؟
اومأ بصمتٍ ثمَّ قالَ:
_ لكن دِي جرِيمة قتل.
= صح دِي جرِيمة قتل، لكِن ربّنا ما حَ يحاسبنِي عليها صدِّقني.
زفَرت بكلل:
= وبعدِين أنَا عارفَة بعمَل فِي شنُو، لكِن...
صمتت للحظةٍ ثمّ استطردت:
= على العمُوم، أنا ما حَ أتناقش معاك كتِير فِي الحتّة دِي، شُكرًا لك.
التفتت إلى البابِ هامَّةً بالخرُوج، استوقفهَا بنداءهِ:
_ رسِيل.
أطرقَ لثوانٍ ثمَّ أردف:
_ مُوافق.
زفَرت بارتياح ثمّ التفتت لهُ وعلى ثغرهَا ابتسامةٌ صغِيرة:
= شُكرًا يا عُثمان.
اومأ رأسهُ وهُو يُطالعها:
_ لكِن أعرفِي إنِّي وافقت بس لأنّي واثِق فِيك، أتمنّى ما تخذلي ثقتِي وتخلِّي الشيطان يلعَب بِيك.
= شيطَان أكتر من الفَارُوقِي؟.. على العمُوم نبدأ متَى؟
_ هسِّي لو حابَّة.
= ووِين؟
صمتَ لثوانٍ كأنَّهُ يُفكّر ثمّ أجاب:
_ أنا عارِف مكان مُناسِب، يلَّا معاي.
= و وِين؟
أشارَ لهَا باتّباعهِ وهُو يتوجّهُ إلى سيَّارتهِ...
❁ فِي شركةِ ناصِر❁
يتربّعُ على كُرسيِّهِ بهدوءٌ وهُو ينهمكُ فِي العمَل على "الكُومبيوتر" الخاصّ بهِ، رائحةُ عطرهِ تعصفُ بالمكان، وقَفت الموظّفةُ الدالفة عبر البابِ تستنشقهَا بعُمقٍ، وتبتسمُ غائصةً فِي خيالاتٍ أبعدُ ما تكُون عن الواقِع وهِي تُطالع تفاصِيل وجهه، رفعَ عينهُ عن شاشةِ "الكُومبيوتر" ليلمحهَا تقفُ وعلى محياهَا ابتسامةٌ مُريبة، أغمضَ عينيهِ وهُو يوحُّد الله بصوتٍ خافتٍ بينهُ وبينَ نفسهِ:
_ لا إلهَ إلَّا الله مُحمَّدًا رسُول الله.
ارتفعَ حاجبهُ وهُو يوجّهُ سُؤاله لهَا:
_ نعم؟
= أ، معليش أس أستاذ...
قاطعهَا بحزم:
_ أطلعِي أقيفِي برَّة.
ازدردت رِيقها بتوتُّرٍ وهِي تُحاول التبرِير:
= ط طيِّب أستاذ فارِس...
قاطعهَا بحدَّةٍ:
_ قُلت أطلعِي أقيفِي برَّة.
خرَجت فِي صمتٍ ووقفَت أمامَ البابِ كما أشارَ لهَا، جاءهَا صوتهُ الصارم قائلًا:
_ دُقِّي الباب.
فعلت كمَا أمرهَا، وقفَت ثوانٍ أُخرى تنتظرُ منهُ أمرًا بالدخُول، دلفَت باضطرابٍ وهِي تسمعُ أمرَ السماح:
_ أدخل.
وقفَت بخوف وهِي تسترطُ رِيقها، ارتفعَ حاجبهُ وهُو يُطالعها بسخط:
_ تانِي مرّة، انتبهِي أنتِ داخلة وِين.
= أ، أ آسفة، جِيت أقول ليك ملفَّات المشرُوع كُلّها جاهزَة.
_ خُتّيها.
وضعتهم أمامهُ على الطاولة وأسرعت بالخرُوج، مسحَ على وجههِ وأغمض عينيهِ زافرًا الهواءَ الذِي يكتمُ صدره، فتحهما على رنينِ هاتفهِ بجانبهِ، استجابَ للمُكالمةِ بهدُوءٍ يُنافِي شعورهُ بالانزعاج:
_ ألو، أيوا معاك فارِس.
عقدَ حاجبيهِ وأجاب بقلقٍ قد حلَّ على ملامحهِ:
_ شنُو؟ أسمَار مالها؟؟ طيِّب جاي فورًا...
❁ فِي مكانٍ آخر❁
يسلااااام الخير بيجي مع بعض جد جددد❤️❤️❤️
مبارك❤️❤️
مستنية زول يجي يقول لي نينيني في ابرياء م ليهم ذنب، نينينيي الشماتة م صح، نينينيي
عشان الحظر يسع الججميععععع
انتهَت، أتمنّى لكم قراءة مُمتعة ومُفيدة.. مع تزويدي بالآراء والنصائح. 🖤
Читать полностью…= فعلًا، وحتّى ناصِر كان بيعزّهُ بطرِيقة، ربَّنا يرحمهم ويغفر ليهم يا رب.
تنحنح وأردف:
= العايز أقولهُ ليك، إنّهُ أنا اكتشفت بإن الشخص القذر الكانت شغَّالة عندهُ رسيل دا نفسهُ، هُو زوج ساريَة، وهُو القتلها، سمعت من رسيل الكلام دا، الحمدلله خلصنا من الكابُوس وموَّال المُطاردة والشخص دا انعدَم من الدُنيا دِي.
عقدَ "فارس" حاجبيهِ:
_ عمِّي هيثم كان عندهُ منّها ولد؟
= لأ، لكن الفَارُوقِي دا كان عندهُ منّها ولد.
زادَ الأمرُ تعقيدًا وضبابيَّة في ذهنهِ، ما يعلمهُ عن "الفَارُوقِي" أنّهُ يملك بنتًا واحدة وقد تُوفيت، ومُتأكِّدٌ تمامًا أنّ "عُثمان" ليسَ ابنهُ، مهلًا.. لحظة!!.. هل يُعقل أن يكُون "عُثمان" أخًا لـ "رسيل"؟، ولهذا السبب قُتلت "سارية"؟ ولكِن من غيرِ المعقُول أن يقتلهَا بعد كُلّ السنوات التِي عاشتها معهُ لأجل سببٍ كهذا!!
كُلّ شيءٍ متوقّع من "الفَارُوقِي"، التفت إلى "غازي" وسألهُ بشك:
_ هل عمِّي هيثم وساريَة دِي كانت العلاقَة بينهم طيّبة قبل، يعني قبل ما تقع بينهم خلافات؟
= بطرِيقة ما بتتخيَّلها، ياخِي هيثم كان بيشعر أشعار فِيها، وسارية كان فِيها كُل صفات المرأة المثاليّة صراحة، ما اتوقّعت يتجاوزها ويتزوَّج تانِي واللهِ.. لكن سُنَّة الحياة يا ولدِي.
اللعنَة، يبدُو أنَّ الأمر كمَا يتصوَّرُ له، قُتلت "سارية" نتِيجة حُبّ السيطرة والاحتكار لدَى "الفَارُوقِي"، من المتوقّع أنّهُ تزوّجها حُبًّا بجمالها واحتكارًا لها، وقتلَ "هيثم" بسبب جنُونهِ وهوسهِ، بالأحرى لأنّها كانت تحملُ حُبّهُ فِي قلبها!!
وحتَّى لو بدا ظاهريًّا أنّها تناستهُ، لن يحتملَ الحقيرُ أن تُحبّ زوجتهُ شخصًا سواهُ، ولذا أنهى وجودهُ فِي الحياة، ولكن الحُبّ وما يفعل!!
أغمضَ عينيهِ يُفكّر بشيءٍ واحد، كيف سيُخبر "رسيل" أنَّ لديها أخًا يعيشُ بجانبها طوال الوقت وهِي لا تدري؟؟.. قامَ إلى الداخلِ ليتحدَّث إليها، ولكن لم يجدهَا...
❁ فِي مكانٍ ما❁
"على شاطئ النِيل"
جلسَ يُطالعُ المكانَ وقد راقَ لهُ منظرُ البحرِ الهائج لأوَّلِ مرَّة، يبدُو وكأنَّهُ مُراهقٌ قد أحبّ للتوّ ويتشوّقُ للقاءِ بحبيبتهِ، كانَ ينتظرهَا بفارغِ الصبر، ولكن ملامحهُ تحوَّلت تمامًا حينمَا رآها:
_ رسيل؟؟؟
ابتسمت بمكر:
= آي رسيل، مالك؟ ما مبسُوط بشوفتِي ولا شنُو يا حسَّان؟
تسارعَت وتيرةُ أنفاسهِ وهُو يقول:
_ الجابك شنُو هنا؟ ودايرة شنُو؟
= دايرة شنُو؟ دا سُؤال تسألهُ هسِّي؟
أردفت وهِي تعرضُ عليهِ شاشة هاتفهَا:
= أنت صدَّقت حكاية إنّهُ فِي بنت اسمها روان مُنجد؟
ارتفعَ حاجبهُ بشك:
_ قصدك شنُو؟
= قصدِي الفِي بالك يا أخينا، حكاية روان مُنجد ولقاء على شارع النيل وهلمَّ جرّ كُلّها كانت مُجرَّد تخطيط منّي، عارفاك ضعيف قدّام الجنس اللطيف، وبيقُولوا لو عايز تلقط السمكَة، خُتّ طُعم فِي السنّارة، فا شنُو، وقعت وما سمَّيت يا حسَّان.
ابتسمَ باستخفاف قائلًا:
_ قُولي عرفتِ تجيبيني، أها حَ تعملي شنُو؟
نادَت بصوتٍ عالٍ:
= جنابُو، يا جنابُو.
ظهرَ وراءهَا رجُلان من رجالِ الشُرطة، تجهّم وجهُ "حسَّان" الذي قال مُحذِّرًا:
_ ما أنا البيتلعب معاي يا رسِيل.
= إلَّا كان تلعب بأصابعك فِي السجن بعد دا، يلَّا.
غادرتهُ وهُو رهنُ الاعتقال، أحسَّت بنصرٍ لأنَّها حقّقت العدالة أخيرًا، وردَها اتّصالٌ هاتفيٌّ من "سُندس"، ردّت بابتسامةٍ ناجمةٍ عن حماسها الشديد لتُبشّرها، لكنّها فُوجئت بصوتها الباكِي حينمَا ردَّت:
_ ألو، سُندس مالك، أنتِ كُويِّسة؟
صاحت بارتجافٍ عندمَا وقع الخبرُ على مسامعها:
_ عُثمان مات؟ كييف يعني؟.. لا حولَ ولا قوَّة إلَّا بالله، س سُندس أنا جاية جاية عليك ما قادرة أسمعك...
ـــــــــــــــــــــ ༺༽❁ ❁༼༻ ـــــــــــــــــــــ
"بعد مرُورِ عامين"
#بلسان_رسيل
" بعد تأديةِ مراسمِ العُمرة برفقةِ فارِس"
امتطتِ الحياةُ صهوةَ طمُوحي، تلاعبت بشمعةٍ كانت هِي التوهُّج الأخيرَ بينَ عينيّ، ولكن بفضلِ الله لم تطفئها، أنا التِي باتت العثراتُ تحفرُ مكانًا لها بينَ طيّات اسمهَا، فاعتنقتُ قوّة الشمس، وارتدت غيمةً أمطرت على تلكَ الحُفر زُهورًا زرقاء، الحياةُ ليست عادلةً إطلاقًا، ولكنّا لا نُؤمنُ بعدالتها، وإنّما نُؤمنُ بالعدلِ السماويّ ولولا ذلك، لهرمنَا فِي سبيلِ البحثِ الطويل الذي قد لا ينتهِ لشيء، أؤمنُ تمامًا أنِّي مثلُ البحر، كُلّما فقدت، ازددتُ، ازددتُ يقينًا، إيمانًا، قناعةً بأنَّ هذهِ الدُنيا ما كانت لنا، ولن تكُون لنا أبدًا، الفقدُ سُنّةُ الحياة، والتغيير هُو الثابتُ الوحيدُ فِي هذهِ الحياة، لا تخضع للظروف، بل ضعها جميعًا فِي قالبٍ يُناسبك، وابدأ رحلتك فِي هذهِ الحياة على أنّك قادرٌ، ما دُمت تُؤمنُ بقدرةِ الله...
تمَّت بحمدِ الله♕
The end
رسيل
الحلقة الواحدة والأربعُون {41}
"الأخيرة"
بقلم: رحاب يعقوب
{مُورفــينَـــا}
❁ صباح اليُوم التالِي❁
صوتُ الشيخِ "المنشاوِي" يغمرُ المكانَ ويحتضنهُ، رائحةُ البخُور المُختلطة برائحةِ الفطائر التِي تعبقُ بكُلّ شبرٍ فِي المنزل تصنعُ انشراحًا عظِيمًا فِي صدر من يستنشقها، خرجَ من غُرفتهِ ينفضُ شعرهُ من الماءِ وهُو يرتدِي قميصًا أزرقًا دُون غلقِ أزرارهِ، للمرّةِ الأولى بعد سنواتٍ طويلة تُخالط الألوان تفاصيلهُ، بعد أن طلبت هِي تحديدًا منهُ أن يفعلَ ذلك، فما كانَ منهُ إلَّا أن ينصاعَ لطلبها، وقفَ إلى جانبِ إحدى الأعمدةِ يتأمّلها وهِي مشغولةٌ بإعداد الشاي والفطائر، خصلاتُ شعرها المُتمرَّدة وقطراتُ الماء التِي تتساقطُ من تموُّجِ شعرهَا تجعلهُ مبهوتًا بجمالها، تقدَّم نحوها ليُباغتها بحضنٍ مُفاجيء ويرمِي بقُبلةٍ وديعةٍ على عُنقها:
_ صباح الخير للخير نفسهُ.
ابتسمَت بلطف:
= صباح النُور.. قرِيت وردك الصباحِي؟
_ أيوا الحمدلله.
= طيِّب عاين، أقفل زرايرك دِي الجو الليلة لاسِع عديل من البرُودة.
_ أنا جنبي الدفء نفسهُ ما حَ أحس بأيَّ شيء.
= أقفلها طيِّب.
أدارها إليهِ وهُو يرفعُ حاجبهُ بخبث:
_ عشان شنُو؟
اقتربَ منهَا حتّى خالطت أنفاسها أنفاسهُ، وضعَ جبينهُ على جبينها قائلًا كأنّهُ يجسُّ ردّة فعلها:
_ قُولي يلَّا عشان شنُو؟
أحسَّت بارتباكٍ يُلعثم كلماتها:
= عش.. عشان....
قاطعهما صوتُ قرعِ الجرس، ممَّ جعلهُ يندبُ حظّهُ بشدّة ويتمنّى أن ينسحقَ من وراء الباب، ضحكت بقوَّةٍ وركضت إلى الغُرفةِ تُجرجر ثوبهَا لتتدثّر بهِ، بينمَا أغلقَ هُو أزرارهُ وهمَّ بفتح الباب، وقفَت لدقائقٍ أخرى تنتظرهُ، عادَ إليها وفِي يدهِ ظرفٌ أبيض كبير، استفهمت باستغراب:
_ منُو يا فارِس؟
مدّ إليها الظرف الأبيض وهُو يقولُ بحماس:
= أمسكي، أفتحيهُ.
تناولتهُ عنهُ وجعلت تتفحّصهُ باستغراب، مدّت يدها بداخلها وسحبت ورقةً يبدُو أنّها ورقةُ مُعاملةٍ قانُونيّة، قرأت أسطر العقد الذي اتّضح أنّهُ عقد شراء قطعةِ أرض، وكُتبَ بالخطّ العريضِ فِي خانةِ المالك اسمها رباعيّ، نظرت لهُ بذهُول، شعرت بالحيرةِ تجوسُ فِي عقلها، نبست باستغراب:
_ فارِس، دا شنُو؟
= الأرض بتاعة العيادة حقّتك، يا دكتُورة رسيل هيثم.
أردف وهُو يغمزُ لها:
_ أو خلِّيني أقُول، يا مدَام فارِس.
= كيف يعني؟ عيادة؟
_ أنا قبل كدا قُلت ليك، أنا ما عايز أحرمك من أيّ أمنية أنتِ بتتمنِّيها أو أيِّ حلم بتحلمِي بيهُ، أنا عايز أشوفك أكبر دكتُورة فِي الدُنيا دِي، ما عايز أيِّ عائق يقيف فِي وش مرتِي.
اتّسعت ابتسامتهُ مُستطردًا:
_ عارِف عمِّي هيثم ربَّنا يرحمهُ كان طموحهُ كبير فِيك وما تسأليني عرفت كيف، وأنتِ أمانة منّهُ لي، أرعاكِ وأحفظ ليك حقُوقك، أنتِ حَ تصبحي مُستقلَّة بعيادتك زي ما ينبغي.
أسفرت عينيها عن دمُوعٍ شابت لمعتها الحنُون، غلبَ الموقفُ أبجديتها، فأسرَعت لتُعانقه بحُبٍّ وكذلك فعل هُو، مسحَ على رأسها ونبسَ بصوتٍ رخيم:
_ ما عايز أشوف الدمُوع دِي.
انفكّت عنهُ ومسحت دمُوعها قائلةً بخفُوت:
_ الحمدلله عليك يا فارِس.
= وعلِيك ألف مرَّة يا ستّ النّاس، يلَّا، مُتحمّس أشرب الشاي من تحت يدّك.
ابتسمَت:
_ حاضِر...
❁ فِي مكانٍ آخر ❁
" بيتٌ من بيوتِ الله"
"السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاتهُ، السلامُ عليكم ورحمة الله"
قالهَا بصوتٍ خاشعٍ عند التسليم من صلاتهِ، جعَل يُردّد أذكار الصلاة وشرعَ فِي ترتيل جُزءٍ يسيرٍ من القُرآن، شاعرًا بارتخاءِ جسدهِ وانخفاضِ دقَّاتِ قلبهِ، شعورٌ غريبٌ يتدفّقُ إلى قلبهِ منذُ الأمس، زفرَ ببطءٍ حينَما أنهى تلاوتهُ وخرَّ ساجدًا يشكرُ الله وهُو يبتسم، ويُخالطهُ شعورٌ آخر دبَّ فِي أوصالهِ وكأنّهُ الوداع...
دلف إمامُ المسجدِ وهُو يطأُ مفرشَ الأرضيّة ببطءٍ، نظرَ إليهِ وهُو ساجدٌ فغمرهُ شعورٌ بالرضا والطمأنينة، اقتربَ منهُ وجلس جوارهُ ينتظرُ أن يُنهي صلاتهُ، لكنّهُ لاحظ أنَّهُ قد أطالَ السجُود، فبدأ القلق يساورُ قلبهُ، اقتربَ منهُ ليُناديه، مرَّة، واثنين، لا رد، لمسَ يدهُ فوجدهَا باردةً مُتصلّدة، قلبهُ إلى جنبهِ فوجدهُ مُبتسمًا، يغمضُ عينيهِ ولا نفسَ يتحسّسهُ ولا نبضًا يختلجُ بصدرهِ وأطرافهِ، هزَّ رأسهُ بخوف:
_ عُثمان، عُثمان يا ولدِي، أنت سامعنِي صح، أصحى أنا شيخ عُمر قُوم.
لا حركَة ولا استجابة، هبَّ شخصٌ ثالثٌ إلى المسجدِ على صوتِ الشيخِ وهُو يستفسر:
= شِيخنا، الحاصِل شنُو؟
_ تعال يا طاهِر، تعال شُوف الولد دا مالهُ ما بيقوم.
اقتربَ منهُ ليتفحّصهُ، انكمشت يدهُ نحوهُ وقد أغمضَ عينيهِ قائلًا بتأثُّر:
= لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بالله، لا نقولُ إلَّا ما يُرضي الله يا شيخنا، إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجعُون.
_ عُثمان اتوفَّى؟
اومأ بحُزن، فضمّهُ الآخر وجعل يُقبّلُ جبينهُ ويبكي كأنّ الفقيدَ أحدَ أولادهِ...
اتّسعت ابتسامتها وهِي تتابع بشيءٍ من الاستحياء:
_ وحتَّى لو أنت الظلام، أنا بفضّل أختارك على النُور.. طُول ما أنَا حيَّة بإذن الله، ما حَ أخلِّيك تحارب لوحدَك، أنا عايزة أقيف معاك فِي كُلّ خطوة ولو استحالت.
جرت عُصارةُ الطمأنينةٌ والحُبّ بعروقِه مع مجرى الدم فِي تلك اللحظة تحديدًا، كلماتها لم تكُن مُجرّد كلمات، أنعشت فيهِ احساسًا يُرفرفُ من جديد، تذكّر السانحةَ الأخيرة من قيامِ الليل والتِي دعَى الله فِيها بالخفاء لأن تُشفى "رسيل" وتستعيدَ قدميها مُجدّدًا، ووجدهُ قد استجابَ لدعوتهِ فِي يومهِ التالِي، أحسَّ بصدق كلماتها، أقدارُ اللهِ مُرَّة، ولكنّها ما خُلقت إلَّا لتشفِي ضعفنا وتُقرّبنا إليهِ.. أغمضَ عينيهِ وتنهّدَ باستسلامٍ لنفسهِ، لقد أدركَ الآن أنّهُ يحملها بينَ جوانح روحهِ، ويخفقُ فؤادهُ بحبّها، قال بنبرةٍ التمسَت فِيها عُمقه:
_ أنتِ ليه عايزة تكسرِي الحواجِز؟.. أنا أكتر إنسان بخاف من التعلُّق، كُل ما اتعلّقت بحاجة بفقدها.
= ما كسرتَ الحواجِز، أذابتها الأقدار يا فارِس.
فتحَ عينيهِ وهُو يُطالعها:
_ عارفَة ليه؟.. لأنِّي الظلام، وأنتِ النُور الضاوِي عُتمة طرقاتي.
أردف بصوتٍ شاعريٍّ:
_ بحبّك، لأ أنا ولهان يا رسيل.
خفق قلبها بعُنفٍ وهِي تُطالع تقاسيمَ وجههِ الدافئة، انخرطَا فِي عناقٍ طويلٍ وحمِيم، ودّا لو أنَّهُ كانَ بطولِ الليلِ البهيم هذا...
❁ باك_ Back❁
ابتسمَت خفيفًا وهِي تُعدّل عقدَ الفضَّةِ على عُنقها وتُطالع شكلها بالمرآة، إنّها تعيشُ ليلةَ العُمرِ كمَا لو أنّها فِي الخيال، خرَجت إليهِ وعلى وجنتيهَا احمرارٌ طفِيف، بينمَا غاصَ هُو فِي عالمٍ آخر عندما رآها...
فُستانٌ سماويٌّ بسِيط، تُلامس أكمامهُ الأرضَ بدلالٍ، وتنتشرُ تطاريزٌ ماسيَّةٌ بسيطة على جذعهِ، يرتفعُ عُنقهُ على جيدهَا قليلًا ويتطابقُ مع جسدها بطريقةٍ جعلتهُ يهيمُ فِي عالمٍ آخر، كأنّها مُهرةٌ كبحت قلبَ فرسٍ عُزل سنواتٍ عن العالم، الكُحل فِي عينيها يكادُ يُذيبُ عقلهُ وقلبهُ، تقدَّم إليها وهُو يُعدَّل ياقة بذلتهِ السوداء الأنيقةَ كأنّهُ عريسٌ يحتفل بزفافهِ للتوّ، مدّ يدهُ إليها ومدّت هِي بالمُقابل يدهَا، سحبَها وقد احتضنَ خصرها بيديهِ وانحنَى ليهمسَ لها:
_ أنا غيران من الفُستان بالمُناسبة.
تلعثمت وهِي تلكزهُ على كتفهِ باحراج:
= فارِس، الله!!
ضحكَ خفيفًا وقبَّل خدّها:
_ أها، رأيك شنُو فِي ليلة العُمر البسِيطة دِي؟
= بالنسبة لي، ولا كُنت بحلم بيها حتَّى.. بس عايزة اسألك.
_ لأ قبّليني، ما تسألِيني.
أغمضت عينيها وهِي تهزُّ رأسها بيأس وتبتسم:
= استغفر الله العظيم.
_ بتستغفري مالِك؟.. مُش مرتِي كمان؟
فتحت عينيهَا وقالت بجديَّةٍ مُصطنعة:
= أحسن لك ياخ.
_ أحسن لي شنُو؟
قبَّل جِيدها بعُمقٍ وقال مُردفًا:
_ كدا؟
قبَّل خدّها تارةً أخرى:
_ ولا كدا؟
اقتربَ من وجههَا قليلًا فأسرعت هِي بدفعهِ عنها واستغفرت:
= ياخِي مالك ياخِي أنت؟
ضحكَ بقوَّةٍ وأمسكَ بها مرَّةً أخرى:
_ خلاص معليش، اسأليني.
رمقتهُ لثوانٍ وهِي تضعُ يديها على كتفيهِ وقالت:
= أنت ليه أصرِّيت تكُون ليلة العُمر فِي؟ ومن وِين عرفت إنِّي كُنت عايزة أطل باللُون الأزرق فِي الليلة دِي؟
_ لأنِّي بقيت عايشك، أنا عارِف كُلّ حاجة، وبعدِين نحن اتزوَّجنا فِي ظروف الواحِد ما كان فاهم ليهَا أيَّ شيء، وأنا عارف دِي ما كانت أمنياتك بس رضيتِ بالقدر ورضيتِ بي وأنا فِي أسوأ حالاتِي، وأنا ما عايز أحرمك من أيِّ أمنية بتتمنّيها يا رسيل، ما عندِي أغلى منِّك عشان أحقّق ليهُ أمنياتهُ.
دمعت عينيهَا وهَوت كلمتها منها بخفُوت:
= ربَّنا ما يحرمنِي منّك.
_ ولا منِّك يا ستّ النّاس، نرقُص؟
مسحت دمُوعها:
= ليه لأ؟ طوَّالي.
أخذتهما موجةٌ من الضحكِ الطوِيل، والأحاديثِ الغزيرة، والحُبِّ الذِي حفّ الأرجاء حولهما وكان الشاهد الوحيدَ على لحظتهما تلك...
❁ المسَاء❁
على لسانِ فارِس الذِي كتبَ على حائطِ الغُرفةِ خاصّته، مُستشعرًا حالَ الكاتبِ الذِي اندثرَ فِي قلبهِ من سنواتٍ طويلة عندمَا رآها تغفُو على فراشهِ والوردُ الأزرقُ يستلقي فِي أحضانها ...
" وجئتكِ أنتِ، كيراعةٍ تنصّلت عن نُورها، عندمَا شاركَت الذئابَ أمسيةً حقيرة، أنا الذِي لسعتنِي عقاربُ الساعة، فسرَى سمّها فِي أوصال لُغتِي، وتدفَّقت على حنجرتِي تلعثماتٌ، ادّعى الليلُ أنّها محض ترياقٌ، ولكِن، حينمَا دبَّت خطواتكِ على صدرِي، ظننتُ أنَّ شُعاعات الشمسِ لصًّا، فمن اعتادَ القلق ظنّ أنَّ الطمأنينة كمينًا يا عزيزتِي، كانت تلكَ المرَّةُ الأولى التِي يتنفّسُ فيها ابنُ الظلامِ شمسًا، حيثُ تسلّلت جلدهُ استعاراتٌ جديدة، أنعشت بُور لُغتهِ وأحيتهُ، ومن أنتِ؟
اكتفَى بإيماءةٍ سريعة وتبادلَ نظراتٍ صامتةٍ مع "عُثمان"، لقد أثارت بداخلهما نزعةً بالفخر تجاهها وتجاه ثقتها وذكاءها، لم تدع لهما مجالًا لانتقاد خُطّتها حتَّى، وخصيصًا "فارِس"، كان ينظرُ إليها بعينِ من الفخر وشعورٌ آخر لا يعلمُ كنههُ، أضافت "رسيل" بهدوء:
_ لكن يا فارِس، من الفترة دِي ولحدّ ما الفَارُوقِي يجي البلد دِي هُو ما حَ يشيل عيونهُ عنِّي، عايزاك تفضل بعيد خالِص عن مُحيطي أصلًا، تحرُّكاتنا لازِم تكُون مخفيَّة ومنطقيّة بالنسبة لهُ هو على الأقل.
ضيّقت عينيها وأردفت بكلماتٍ تقطرُ غلًّا وثأرًا تجاههُ:
_ لازِم ياخد كُلّ ذي حقٍّ حقّهُ، كفَّة الميزان وجب إنّها تعادل أختها...
❁ باك _ Back❁
= أحمم.. فارِس ودِّيني لساجد وأسمار، مُحتاجة أقعد معاهم شويَّة.
_ وراجلك؟
= ها؟
قالتهَا بارتباكٍ وتوتُّر، اقتربَ منهَا وقبّل خدّها بعمق:
_ ما حَ نمشي ليهم.. خلِّينا نمشي بيتنا.
= ل لكن...
قاطع حديثها واستبقهُ بحركتهِ المُباغتة بقيادة السيّارة، لم ينتظر سماعَ رأيها حتّى، بل اتّجه لتنفيذ ما فِي رأسهِ فورًا...
❁ على جانبٍ آخر❁
"فِي المقابر"
وقفَت خارجَ سُورِ المقبرةِ تُراقب تحرُّكاته بينَ قبرٍ وآخر، تشعرُ بالعطفِ تجاههُ، أخيرًا خرج إليها وأمسكَ بيدها مُتّجهينِ إلى السيّارة، سألتهُ:
_ بتجِي هنا كم مرَّة؟
= كُل ما صحَّت لي الفُرصة، بجي.
_ يا بختهم أمّك وأختك وحبُّوبتك، ربَّنا يرحمهم ويغفر ليهم.
= اللهمَّ آمين يا رب.
كانَ يودُّ لو يُفصح لها عن ماضيهِ وعن ارتباطهِ السابق بـ "رُميساء" وأنّهُ لا زالَ يزورُ قبرها كُلّما سنحت لهُ الفُرصة ويدعُو لها بالرحمةِ والمغفرة، الأمرُ مُؤلمٌ بالنسبةِ لهُ، أنّهُ أدركَ حقيقة موتها بسُوء الخاتمةَ مُتأخِّرًا، ولكن يُقال أن تصل مُتأخِّرًا خيرٌ من ألَّا تصل، رشقها بنظرةٍ أثارت توتُّرها فجعلت تنظرُ إلى شكلها وتسألهُ بتشكيك:
_ عُثمان؟.. مالك بتعاين لي كدا؟ وتّرتني.
= حَ نمشي وين؟.. بيتنا؟
غمزَ بعينهِ سريعًا فضربتهُ خفيفًا على صدرهِ وركبت على السيّارة، امتطَى هُو الآخر مقعدهُ بجانبها فجعل يضحكُ بقوَّةٍ على ملامحها الطفُوليَّة، ممّ جعلها تُبادله الضحكات وتهزُّ رأسها بيأسٍ من حالتهِ، أخيرًا ربّتت على كتفهِ وقالت بهدُوء:
_ عُثمان، عايزاك تحكِي لي كتير عن أمّك وأختك، وحبُّوبتك، وكُل شيء.
= حاضِر يا ستّ النّاس، مع الوقت إن شاء الله حَ تعرفِي أيّ شيء.
اومأت برضًا مصحوبٍ بابتسامةٍ جميلة، وسادَ الصمتُ للحظةٍ بينهما...
❁ منزل فارِس ❁
بينمَا كَانت ترتدِي أقراطَ أذنهَا الماسيَّةَ البسيطة، التِي كانت اللمسةَ الأخيرة فِي شكلها المُميَّزِ بطريقةٍ مُبهرة، كمَا لو أنّها أميرةٌ هاربةٌ من الخيال، وقعت عينهَا على عقدٍ من ذهب أهدتهُ إيَّاها "أسمار" قبل أربع ليالٍ من اليوم:
❁ فلاش باك _ Flash back❁
"قبل أربعَ ليالٍ"
دلفَت إلى محلِّ "لاڤين" للذهب والمجوهرات وهِي تحملُ "ساجد" بينَ ذراعيها وتُمشّط المكانَ بعينيهَا، ابتسمَت قائلةً في سريرتها جُملتها المُعتادة "اللهمَّ بارِك"، شعرت بشخصٍ يسحبها إلى اليمينِ فجأةً فالتفتت لتجدَها "أسمار" وكانت تُشير لها بالجلوسِ على كُرسيٍّ جلديٍّ أبيض اللون، فعلت كمَا طلبت منها وجلست تمسحُ على رأسِ "ساجد"، جلست "أسمار" قُبالتها وهِي تُقبّل "ساجد" وتُداعبهُ بخفَّة، أخيرًا فتحت ذراعيها وقالت بحسِّ فُكاهيّ يمتزجّ بالحماس:
_ مرررحبًا بمرأة ولدنا العسُّولة الأمُّورة، نوّرتِ المحل ونُورك جهرنَا يا سُكّرنا.
ابتسمت "رسيل":
= منوِّر بأسيادهُ يا سمُّورة، وين فارِس؟ جاية اطمئن عليهُ.
غمزت "أسمار":
_ التفتِي علينا شويَّة ما مُمكن البال كُلّهُ معاهُ هُو.
أشاحت "رسيل" بنظرها عنها وهِي تلكزها خفيفًا:
= أسكتي ياخ.
_ فديتهُ البيخجَل أنا.
تنحنحت وأردفت:
_ عايزة اسألك يا رسيل، اتزوَّجتُوا متَى واتلاقيتُوا كِيف؟ وكيف خلِّيتيهُ يقع فِي حُبِّك؟ الغتيت دا ما قاعد يحكِي لي.
أجابت "رسيل":
= اتزوَّجنا قريب نسبةً لظروف مُغايرة، يعني غير الأنتِ مُتخيّلاها فِي بالك دِي ما كان زواجنا عن حُب ولا شيء، حكاية طوييلة جمعتنا واللهِ بتعرفيها مع الأيَّام بإذن الله.
_ ما عن حُب؟.. يا زُولة بعد الأنا شايفاهُ فِي عيون فارِس دا ما عن حُب؟
= عيُون فارِس مالها يا سمُّور؟ ما تكبِّري المواضيع.
_ فارِس ولهان عديل مُش بيحب.. سيرتك عندهُ ما أيَّ سِيرة وخلاص، عملتِي ليهُ شنُو يا زولة اعترفِي؟؟
غطَّت "رسيل" وجهها بيدها وابتسمت بخجل:
= الله يهدِيك ما عملت شيء ياخ.
_استغربت ذاتهُ إنّهُ رجع يحب بعد إسراء تانِي، ربَّنا يرحمها.
"رسيل" باستغراب:
= إسراء؟
_ قُولي لي ما حكى ليك عنّها.
هزَّت "رسيل" رأسها نفيًا:
= ما صحَّت الفُرصة، نحن من اتزوَّجنا والمشاكل ما سابتنا لحظة، أحكي لي أنتِ.
اومأ بخفّة، نظرَ إلى عينيهَا الحزينتينِ مطوَّلًا، وقفَت حِينما أحسَّت أنّ عليها العودة إلى المنزلِ سريعًا وقالت:
= مفرُوض أمشِي، بُكرة إن شاء الله حَ أقول لعُثمان يعلِّمني، وأنت الأفضل تبقى هنا الليلة.
_ براك؟ تبيتِي براك؟
= عايز الفَارُوقِي يشك فِينا؟
_ حريقَة تحرق الفَارُوقِي ياخِي.. أنا حَ أجي بعدك مُستحيل أخلِّيك تبيتِ براك.
= خلِّي بالك من نفسك، ومن خالتك شديد.
استدارت نحوَ المطبخ لتطلبُ من "أسمار" ثوبًا تتدثّرُ بهِ لتُغادر، لكنّهُ استوقفها حينمَا احتضنَ معصمهَا بأصابعهِ ونهض ليحتضنَ وجهها بينَ يديهِ ويُقبّل جبينهَا بعمق، أغمضت عينيها وهِي تشعرُ بالدفء نفسهُ يجري في عرُوقها، قبّل عينيها، وأنفها، وخدّيها، وأخيرًا رفعَ يديهَا إليهِ ليُقبّلها بحنانٍ بالغ، وأخيرًا سحبها لحجرهِ وهُو يُريد أن يدفنها بين أضلعهِ، كأنّهُ بفعلهِ ذلك يُداوِي جراحها، ويسكبُ الطمأنينةَ سكبًا على قلبهَا المذعُور...
" وأجدنِي معكَ، أقسمُ أنّ كُلّ حُزنٍ مضى، هُو عقيقةٌ لطمأنينةٍ ستُولدُ مع كُلّ نبضةٍ تصدحُ بصدري باسمك".
❁ باك _ Back ❁
_ دا ليه لسَّة عايش للآن؟
صاحَ "الفَارُوقِي" بسُؤالهِ الموجّهِ إلى "رسيل" وجعَلت نظراتهُ لـ "فارِس" تتشظَّى غضبًا، اقتربَ "فارِس" منهُ وأمسكَ فكّهُ السُفليَّ وهُو يكزُّ على أسنانهِ بغيظ:
= لأنّهُ أنا عقابك الربَّانِي وقدرك الأليم.
فكّهُ بغيظٍ وجعَل يُنادِي:
= جنابُو، يا جنابُو...
انتشرَ عناصرُ الشُرطةِ حولَ المكان، ليقعَ "الفَارُوقِي" أخيرًا فِي مصيدتهم، ويتحقّق حُلمٌ كان بعيد المنالِ بالنسبةِ لـ "رسيل" التِي تاقت لرُؤيةِ وجهِ العدالة...
يُتّبع...
= اتفضّلي، فارِس جوَّة.
دلفت الأخرى وهِي تنكمشُ على نفسها من البرد، أطراف ثوبها تقطرُ بالماء، خرجَ وهُو ينفضُ شعرهُ من الماء، لمحَها تقفُ على مبعدٍ منهُ، اقتربَ بهدوء:
_ رسيل، جيتِ برجلينك؟
رفعت عينيهَا الغارقتينِ بالدموعِ نحوهُ واومأت:
= مُمكن نتكلّم بسُرعة؟ أنا ما عندِي زمن.
نظرَ إلى "أسمار" التِي كانت تُطالعها بشكٍّ وقال:
_ عاينِي اقفلي الباب، دِي ما زُولة غريبة.
أردفَ زافرًا:
_ دِي مرتي.
حلّت ملامحُ الفُجاءةِ على وجهِ "أسمار" التِي تسائلت بصدمة:
_ مرتك؟؟ وليه ما ورِّيتني من الأوَّل.
أغمض عينيهِ بملل:
_ دا ما وقتهُ، بشرح ليك كُل شيء بعدِين.
_ لالا يا حبيب، البت دِي حَ تمُوت بالبرد، أنت المفرُوض تأجّل أي شيء هسِّي.
أغلقت الباب واقتربت من "رسيل" لتلفّ يديها حول كتفيها قائلةً بترحابٍ وحُب:
_ مرأة ولد أختي نوَّرتني، أنا حماتك يا عسُّولة.
أردفَت وهِي تُمسك ذراعها:
_ قبل أيّ شيء، تعالِي غيِّري ملابسك دي، الجو بارِد حَ تمرضِي.
هزّت "رسيل" رأسها نفيًا وقالت بصوتٍ خافض:
= معليش بس لازم أتكلّم بسُرعة وأمشِي، ما معاي وقت.
التمسَت "أسمار" الخوف فِي نبرتها، عقدت حاجبيهَا بشيءٍ من القلق، سبقَها "فارِس" في الحديث وهُو يلمسُ خدّ "رسيل" ويمسحُ دمعتها الساقطة:
_ أسمعي الكلام يا رسيل، أنا قاعد ما ماشي حتَّة.
ابتسمَت "أسمار":
_ هيييي بيسمع كلام خالتهُ عاد، أرح يا قمر أنتِ.
استسلمَت "رسيل" لطلبها، فلم يكُن لديها قُدرةٌ للمقاومَة، اصطحبتهَا "أسمار" إلى غُرفتها، بينما جلس الآخرُ على الأريكَة ينتظرهما، قلقٌ يساورُ عقلهُ حولَ الأمرِ الطاريء الذِي طلبت "رسيل" مُقابلتهُ من أجلهِ فِي رسالتها السابقة:
" فارِس، أنا مُحتاجة أقابلك، ضرورِي"
تنهّد وهُو يمسحُ وجههُ وينفضُ الأفكار عن رأسهِ...
ارتدت "رسيل" المنَامة الورديَّة التِي أعارتهَا إيّاها "أسمار"، طويلةُ الأكمام ذات قماشٍ قُطنيٍّ دافء، قبضت شعرها بمشبكٍ صغير حيثُ تفلّتت منهُ خصلاتًا سائبةً على وجهها، ابتسمَت "أسمار":
_ وحلاتِي يا ناس، تراها فداك البجامة، الولد المجنُون دا عمرهُ ما عرف يختار غلط تبارك الله من مُزّة لمُزّة.
أردفت وهِي تتنحنح:
_معليش ما أكتِّر عليك كلام، أمشوا اخدوا راحتكم فِي الكلام وأنا حَ أحضّر العشاء وأجيكم.
اومأت "رسيل" وأسرعت بالخروجِ إلى "فارس" بينمَا اتّجهت الأخرى إلى المطبخ، جلست بجانبهِ فِي الأريكةِ وقالت بصوتٍ مُحتقنٍ بالحزن:
= فارِس، أرجُوك أسمعنِي كُويِّس وركِّز.
= أنا الليلة صاحبتِي سوسن اتوفّت، وآسفة لأنِّي ما كلّمتك بس كُلّه فات فِي بعضهُ.
أردفت وهِي تزدردُ ريقها بصعُوبة:
= وعارف اتوفّت كيف؟
عقدَ حاجبيهِ باستفهام، تابعت:
= قتلهَا الفَارُوقِي، قتلهَا الفَارُوقِي عشان يرضِي غرورهُ، ويقتلنِي أنا ألف مرَّة عشان يخلِّيني أندم، وأخاف.
استطردت بصوتٍ مُهتز:
= هدَر دمّها فِي سبيل إنّهُ يصفّي حسابهُ معاي، وهِي الما عندهَا ذنب ولا دارية عن سبب عداوتِي مع الفَارُوقِي حتّى، وما اكتفَى بكدا وبس، الفَارُوقِي عايز يسلبني كُل شيء فِي الحياة، هُو هدّدنِي بإنّي لازِم أقتلك أو حَ يقتل سُندس، خيَّرني ما بينك وبينهَا.
تنهّدت بارتجافِ أنفاسها:
= وأنَا طلبت منّك نتقابَل برَّة البيت وبعيدًا منّهُ عشان أنا عارفة الفَارُوقِي مُراقبني، ومُراقب البيت، ويمكن حتَّى تلفُوني فاتعمدّت أرسل لك من رقم تاني هُو ما عارف بيهُ.
مسحت دمُوعها الدافقة وشهقت بألم:
= وكان لازِم نتلاقَى، أنا لا يُمكن أقبل بتهديدهُ دا ولا بشكل من الأشكال.
أمسكت يدهُ بينَ كفّيها وجعلت تنظرُ إليهِ بترجِّي:
= أرجُوك، أطلع برَّة البلد دِي خالص، سُوق خالتك وأطلع، قبل ما يكشفني لازم تطلعُوا، بعدِين أنا بعرف أواجههُ كيف.
خبّأ كفّيها الصغيرينِ والمُرتجفينِ بين كفّيهِ وجعَل ينظرُ لعينيهَا الدامعَتين، بدت نُقطة ضعفهِ، حُزنها يعتصرُ قلبهُ المجرّد من المشاعرِ لسنواتٍ طوال، ضعفها يهشّم شيئًا بداخلهِ، الآن هُو يدركُ حقيقةَ أنّها قد أذابت حصُونَ فُؤادهِ التي بناها من سنُون ضدّ البشر، هِي الشمسُ التِي أنارت حياتهُ، والقصيدةُ التِي قادت سرجَ كلماتهِ، وتورّدت فِي تلكَ النُدبةِ البُورِ داخل روحهِ، لا يُمكن أن يسمحَ لأحدٍ بأن يُطفئها!
قبّل كفَّها الباردةَ وقال بهدُوء:
_ الفَارُوقِي وِين يا رسيل؟
أجابت:
= فِي رُوسيا، مشَى رحلة علاجيَّة.
كزَّ على أسنانهِ بغيظ وهُو يلعنُ أيّ شيءٍ يجمعهُ بذلك الشخص، أغمضَ عينيهِ مُحاولًا السيطرة على أعصابهِ:
_ واللهِ أخلِّيهُ يتمنَّى المُوت وما يلقاهُ.
هزَّت "رسيل" رأسها بذُعرٍ قائلةً:
= لأ يا فارِس لأ، أنت بس أطلع، أنا بعرف أأدِّبهُ كيف بس ما حمل إنِّي أخسرك ولا أخسر سُندس ولا أيِّ شخص تانِي.
صوتُ شهقاتهَا يحرقُ قلبهُ، ويزيدُ من غليلهِ تجاهَ "الفَارُوقِي" اقترب منهَا وشدّ على قبضةِ يديهَا قائلًا بعطف:
ازدرد "رُوبن" ريقهُ بتوجُّسٍ من نبرتهِ المخلوطةِ بشيءٍ من الوعيد غير المفهُوم بالنسبةَ لهُ، طالع منزلَ "الفَارُوقِي" حولهُ واومأ بقلق:
= حسنًا، سأساعدكَ فِي حزم أمتعتك.
نظرَ "الفَارُوقِي" إلى ساعةِ معصمهِ وكزّ على أسنانهِ بغيظٍ خفيٍّ ينمُّ عن بشاعة الأفكار التِي تُغرس بعقلهِ، لن يكُون الانتقامُ عاديًّا، سيكتسحُ الموتُ الساحةَ بلا أدنَى شك...
❁ بعدَ مُرور يوم❁
"السُودان _ الخرطُوم"
فِي مطعمٍ لا يقلُّ تخطيطهُ العماريّ عن مستوى المُمتاز، حيثُ الطاولاتُ العائليَّة تحتوِي على أشهى وأرقَى المأكُولات، كانَ يجلسُ أمامَ إحدى الطاولات وعلى رأسها ديباجةٌ بيضاء طُبع عليها اسمهُ، ينظرُ إلى ساعةِ يدهِ بينَ الفينةِ والأخرى، أمامهُ طبقٌ من معكرونة "البَاستا" التِي تُغطّيها طبقةٌ من الجُبن والدجاج المرصوفِ على حوافِ الصحن، ولكنّهُ يرتشفُ قهوتهُ بهدوء مُتناسيًا وجُود الطبق، على الرغم من أنّهُ طلب خاصٌّ منهُ لأنّهُ إحدى أشهى الأكلات الإيطاليّةِ التِي يُحبّها، ولكنّهُ يُريد أن يسدّ جوعتهُ بمنظرها المُنهزم، يتشوّق لرُؤيةِ الخسارة تلوحُ في عينيها، فلن يروِي شعورهُ إلَّا ذاك، أخيرًا دقّت خطواتهَا ارضَ المطعم وها هِي تقفُ أمام طاولتهِ، يعلمُ أنّها لن ترفض طلبهُ بالحضورِ إليهِ، لأنّها لا تزالُ تحت وقعِ تهديدهِ، تنحنحَ وهُو يُشير إليها بالجلُوس:
_ اتفضَّلي، يا طلِيقتي الرائعة.
أردفَ بفحيحٍ ماكرٍ:
_ والقاتلَة.
جلَست بهدُوءٍ دُون إبداء أيّ مُمانعة، جعَلت تُطالع المكَان حولها بملل، على الرغم من فخامةِ المكان إلى أنّها تشعرُ بالكآبةِ تُكلّل كُلّ أطرافهِ، أمَّا عنهُ فكان يتطرّقُ بعينيهِ بكُلّ ثنيَّةٍ للبحثِ عن أيِّ إشارةً تُشير إلى انكسارها، عقدَ حاجبيهِ بارتياب، ما هذا البرودُ الذِي يُخيِّمُ على ملامحها؟
خلّل أصابعهُ بلحيتهِ وارتفعَ حاجبهُ قائلًا بتحذُّر:
_ الواضِح إنّك قاتلة من زمان، ولا شنُو يا رسيل هيثم؟
رمقتهُ بنظرةٍ مُستفزَّةٍ وأجابتهُ:
= دا شنُو المكان الكئيب دا؟.. ما لقيت غيرهُ؟
ابتسمَ باستغراب:
_ دا كُنتِ بتحلمِي بيهُ؟
= تُؤ، أنا حَ أودِّيك لمكَان، ما بتحلم بيهُ فِي أسوأ كوابِيسك.
ضحكَ مُستصغرًا تهديدها:
_ لسسسّة راكبَة دُور اللبوءة الشرسَة؟.. أهَا، حَ تعملي شنُو يا حُلوة؟
ابتسمَت فِي وجههِ ابتسامةً شرسة، كشّرت فيهَا عن أنيابها، بدت غامضةً لهُ بعض الشيء، لمعَةٌ حادّة لاحَت فِي عينيهَا، كأنَّها انعكاسُ نظرتهِ، انشقّ الصمتُ الذِي خيّم بينهمَا بظهُورِ شخصٍ موشّح بالسواد من خلفها، انصبّت الصدمةُ على وجهِ "الفَارُوقِي" حين انكشافِ اللثامِ عن وجههِ، نبسَ بذهُولٍ وتفاجئ:
_ فارِس؟؟؟!...
يُتّبع...
رسيل
الحلقة الثامنة والثلاثون {38}
بقلم: رحاب يعقوب
{مُورفــينَـــا}
❁ بعد مُرور يُومين❁
وقَفت على شُرفةِ المنزلِ، تُراقبُ السماء والمارَّة والضجيجُ فِي عقلها أعلى من ضجيج الشارع، ما أصابَ صديقتها وتحوَّلت إلى تلكَ الشخصيَّة الباردَة فجأة؟ إنّها تُشاهد الحياة تُنتزع من عينيهَا نزعًا وهي مغلولةٌ لا تقوَى على فعلِ شيء، ويعزّ عليها أن تُصاب صديقةُ روحها بمكروهٍ وهِي التِي كانت لهَا سندًا طوَال رحلتها الجامعيَّة المُقيتة والمُتعبة، أغمضت عينيها بتعب، لتنسكبَ في ذاكرتها المواقفَ العظيمة التِي جمعتهما وتُعيدها إلى الوراء لحظةً:
❁ فلاش باك _ Flash back❁
"قبل سنوات"
" فِي إحدى الجامعات المرمُوقة"
وقَفت عند بابِ القاعَة، شاعرةً بأنّ كُلّ شيءٍ يدُور حولها، يختلجُ جسدها ويخفقُ بحركةٍ أبرزت جميع أعصابِ جسدها، يتدفّقُ العرقُ على وجهها كالشلال، تتأرجحُ قدميها بينَ تأخيرٍ وتقديمٍ فِي خطوتها، حتَّى دفعتها إحدى زميلاتها بالقاعَة قائلةً بتبرُّم:
_ ياخ ما تطلعي واقفَة زيّ العارِض.
سقطت الأخرى على الأرضِ كورقةٍ صفراء فِي الخريف، أُصيبَ الحضُور بالهلعِ وشقّت إحدَى الطالباتِ دائرةَ الموجُودين وصاحَت بهلع:
_ حسبي الله، سُندس أنتِ كُويِّسة؟
انحنت إليها لتسندهَا ونظرت إلى الواقفةِ عند باب القاعةِ وقالت بغيظ:
_ خالدة، البت دِي لو حصلت ليهَا حاجة بسببك أنا ما حَ أرحمك.
"خالدة" بانفعال:
= ياختِي ما شايفة حالة صاحبتك كِيف مالِي ومالها؟
_ أنا ال حَ أعمل ليك ميل لو عرفت بالغلط إنّك خدشيتها بس.
انصرَفت وسطَ صياحِ "خالدة" بغيظٍ من تهديداتها، تبتهلُ إلى الله بقلقٍ أن يحفظ صديقتها، وصلتَا إلى مركزٍ صحيِّ يقربُ مسافةً من الجامعةِ، بعد أن أوصت إحدى زمِيلاتها بأخذِ إذنٍ لهنّ للخرُوج المُفاجئ، بينَ الانتظارِ والدُعاء كانت تسيلُ دمُوعها تعبيرًا عن قلقها الثائر بداخلها، خرجَت المُمرّضة نحوها من الغُرفةِ واومأت برضا:
_ الحمدلله يا رسيل، صاحبتك كُويِّسة يمكن عندها ضعف عام في الجسد وركّبنا ليها كانيُولا منعًا لحدُوث المُضاعفات.
= الحمدلله، مُمكن أدخل لها؟
_ أكيد طبعًا إتفضّلي.
قامت سريعًا لتدلف الغُرفة وتجلسَ بجانبها مُقبّلةً جبينها بحنانٍ بالغ:
= أنتِ كُويِّسة يا سُندسي؟؟؟
تجمّعت الدمُوع فِي عينا "سُندس" التِي لفّت يدها كاملةً حول إبهامِ "رسيل" كالطفلةِ الصغيرة، قالت بحنقٍ وصوتٍ تُقطّعهُ العبرة:
_ رسيل أنا دايرة أقول لك شيء، أنا بمُوت ألف مرَّة وأنا مُخبّية الحاجة دِي وما قادرة أشارك بها زُول.
"رسيل" بقلقٍ بالغ:
= سُندس فِي شنُو بسم الله؟
انتصبَت جالسةً وبدأت تسردُ تفاصيل القصَّةِ بخفُوتٍ يصحبهُ كبدٌ وحُزن عظيمان:
_ تتذكّري قبل ثلاثة أسابيع فِي الإجازة؟ لمَّا قُلت لك إنّا سافرنَا بريطانيا عشان عرس ولد عمَّتي، وقتها هُو الحجز لنا التذاكر واتكفّل بكُل تكاليف سفرنا، هناك حسِّيت بنفس الأعراض الحسِّيت بيها هسِّي، ومشيت مع بتّ عمَّتي أفحص، وطلع...
شهقت شهقاتًا مُتتاليَّة قطّعت قلب "رسيل" ثمّ تابعت:
_ وطلع عندِي لُوكيميا يا رسِيل، أيوا صح الدكتور قال لي إنّها فِي المراحل البدائيَّة ومُمكن تتعالج، لكن أنا حسِّيت بالإنهيار، ما قدرت أتكلّم، ما قدرت أقُول لزُول، أمِّي صحّتها تعبانة ومُمكن تنهار بالخبر دا إذا سمعتهُ، وسيّاف يا الله راتبهُ يكفِّي البيت ومصاريف جامعتي الضغط عليهُ ضغط خيالِي، ما حبّيت أزيد عليهُ.. وما حبِّيت أقلِّقك لأنّي عارفة الضغط عليكِ تقيل كيف، كان لازِم أكُون سيّدة موقفِي وأختار الصمت.
غرقت عينَا "رسيل" في الدمُوع ونبست بصُوتٍ ضعيف:
= ودا كُلّه على حساب صحّتك؟.. ليه؟ منُو القال ليك أنتِ بتضغطي علي؟
_ يمكن الله كاتب لي أمُوت...
صاحَت "رسيل" وهِي تسحبها لحجرها:
= يا بُعد الشر، أنتِ ما بتمُوتي بنارِك يا سُندس، المُوت حق لكِن ما معناها إنِّك تستسلمِي للمرض اللعين دا، أنتِ أقوى من المرض دا وما أقوى منِّك إلَّا إرادة ربّنا، أسمعِيني، دا ما وقت اللُوم.
احتضنت وجهها بينَ كفّيها واستطردت:
= أنتِ حَ تتعالجِي يا سُندس، وبإذن الله ترجعِي شديدة مُعافية.
"سُندس" بتعب:
_ رسيل أتعالج من وين والبيعالجني منُو؟ الكلام ساهِل.
= الكلام ساهِل، لكن ما عند رسيل.
أضافت بهدُوء:
= عندِي اكسسوارات ذهب أهدتنِي إيّاها حبُّوبتِي وأنا صغيرة، حتتباع كُلّها، وتسافري بيها عشان تتعالجِي.
_ لو مجنُونة أعملِي كدا، رسيل أنتِ دايرة تمرضِيني زيادة؟
= أنا ال حَ أمرض بقلقِي وخُوفي عليك، ياخِي عايني، اعتبريهم دِين وردّيهم لي وقت ما تقدري، لكن الله يخلِّيك دا ما وقت النقاش، أنتِ حَ تمشي يعني حَ تمشي.
أضافت بألم:
= أنا لا أخت ولا شُفت أخوَّة فِي حياتي، لكن لمَّا لقيتك حسِّيت بالشعُور دا لأوَّل مرّة، عليك الله ما توجعِي قلبِي.
استطردت وهِي تمسح دمُوعها:
= أرسلت ليك مُستند، بخصُوص الشركَة، وصلتنا ورقة رسميّة الأمس بدعوة مرفُوعة على الشركة من شركة "لاندا"، بدافعِ النصبِ والاحتيال، واليُوم جُونا أفراد من الشركة برفقة أوراق الدعوة، أوراق رسميّة وموثّقة، الشركة حَ تقفّل يا أستاذ، رجاءً منك أدخل الواتس وحَ تفهم كُل شيء.
وكأنّهُ كان ينقصهُ انقلابٌ آخر فِي أفكارهِ، فِي ظرف ثوانٍ انقشعَت ابتسامتهُ وتحوّلت إلى تجهُّمٍ مُرِيب وهُو يُنهي المُكالمة ويتّجهُ لرسائلِ "واتساب"، تنقّل بعينيهِ بينَ الأوراقِ والمُستندات المبعوثةِ إليه، دعوةُ احتيالٍ رسميّة ومُوثّقة، وتحذِير، يلعنُ اللحظةَ التِي فكّر بها بعقدِ صفقةٍ مع هذهِ الشركةِ، وقام باستغلالِها كشركةٍ بدائيَّةٍ لصالحهِ، لم يتوقّع أن تنتصب شوكتها مُجددًا بعد كُلّ هذهِ السنوات، لكِن هذا ليسَ وقت التفكِير، الأمرُ يستدعي لتوكيلِ مُحامي بحق، يجبُ ألَّا يخسر شركتهُ مهما كلّفهُ الثمن...
❁ السُودان _ الخرطُوم❁
دلفَت إلى المنزلِ وهِي تزفرُ أنفاسهَا المُتسارعَة، تُنفّثُ عن تعبٍ كان يُرافق هواءَ شهيقها ويقبعُ بصدرها، وأخيرًا ها هِي داخِل غُرفتها، سحَبت فُستانًا منزليًّا بسِيطًا بعشوائيةٍ من خزانتها، بلونٍ فيروزيٍّ داكنٍ مُريح للأنظار، ذا أكتافٍ مُنتفخة تُضفي مرحًا إلى شكلهِ الرقيق، أخذت حمّامًا دافئًا غمرها بالرخاء وشعُور الانتعاش، دلفَت إلى غُرفتها مُجدّدًا وهِي تُجفّف شعرها المُبلّل بالماء وتدلكه بالمنشفَة، وقفَت أمامَ "التسريحةِ" الخاصّةِ بها ودهنت قليلًا من المُرطّب على شفاههَا، نثرت من عطرها الجديد قليلًا ثمّ جعلت تُحاول ربطَ عقدهَا الرقيقِ على عُنقها، وهِي تُركّز بانعكاسها على المرآةِ إذ بهَا تشعرُ بشخصٍ يدلفُ لغُرفتها فجأةً، التفتت إليهِ بحركةٍ سرِيعة وابتسمت عندمَا رأتهُ:
_ مساء الخير يا وجه الخير.
أجابت وهِي تُعاود النظر إلى المرآة:
= مساء النُور يا كُلّ النُور.. الله جابك تعال أربط لي السلسل دِي.
اقترب وأمسكَهُ عنها، قبضَت شعرهَا سريعًا بمشبكٍ وراحت تستنشقُ ظهر كفّها بعُمقٍ، التفتت إليهِ بعد واحتضنتهُ بحُبٍّ وامتنانٍ قائلةً:
_ ياخِي العطر ولا أحلى، الله لا يحرمنِي منّك يا سيّاف.
قبّلها على جبينهَا ومسحَ على رأسهَا مُجيبًا بابتسامةٍ لطيفَة:
= عندِي كَم سُندس أنا؟
زفر قبل أن يُردف:
_ لكن حتّى سُندسي الواحدة دِي دايرين يشيلُوها منّي.. غايتهُ بس الحمدلله.
انفكّت عنهُ ونظرت إليهِ عاقدةً حاجبيهَا باستغراب، رفعَ بدورهِ حاجبيهِ وابتسم:
_ جاك عرِيس يا كتكُوتة.
= عرِيس؟؟؟!
تسائلت باستنكارٍ وتفاجئ، اومأ الآخرُ ثمّ قال:
_ شكلها دعوات الحجّة اتحقّقت، حَ نفتكِّ منّها.
التفتت إلى المرآةِ بانزعاجٍ بادٍ على ملامحها وردّتهُ:
= لالا شُكرًا، قُولوا ليه ما عندنا بت للعرس هنا.
_ وطيّب لو طلع هُو حبيب القلب ذااتهِ؟؟...
نظرت إليهِ بغيظ:
= ياخِي ما تخلِّيني انفصم فِيك.
_ عاينِي ما صح، ودّ النّاس قاعد فِي الديوان مُنتظر، على الأقل تعالِي شوفيهُ قبل ما ترفضِي ساي.
= أنا قُلت كلامِي، عرس ما دايرة.
_ عشان خاطرِي بس، بس تعالِي شوفيهُ، لو ما عجبك أنتِ كلمتك على العين والرأس وأنا ما عندِي أغلى منّك عشان أجبرك على شيء أنتِ ما عايزاهُ.
وقفَت حائرةً أمام اصرارِ أخيها الذِي لا تعرفُ ما السرّ وراءه، أخيرًا اومأت باستسلامٍ بعد أخذٍ وعطاء وجدلٍ ونقاشٍ واسع:
= خِير إن شاء الله، مُوافقة أشوفهُ بس عشان خاطرك.
قبّلها على جبينها بحماس:
_ مُتأكّد حَ يكُون الخيار المُناسب.. مُنتظرنّك.
هزّت كتفيها بقلّة حِيلة، سحبت عباءةً سوداء مع وشاحِ رأسٍ مُطابقٍ وارتدتهما بسُرعة، لم تُكلّف نفسها عناءَ التزيُّن، وكأنّها تعلمُ أنّها ببساطتها هذهِ ستبسطُ سيطرتهَا على عينيهِ عند وصُولها إلى هناك، فغَرت فاههَا بتفاجئ وصدمة:
= عُثمان؟؟؟؟!
ابتسمَ تلقائيًّا عندَ وصُولهَا، ارتفعَ حاجبُ "سيَّاف" الذٓي تنحنح ليصرف أنظارهما عن بعضهمَا ويوجّه خطابهُ لـ "سُندس":
_ تعالِي يا حبيبة أخُوك.
أحنَت رأسهَا خجلًا وجلست بجانبهِ قُبالة "عُثمان" الذِي أطرقَ وهُو يبتسم باحراج، بدأ "سيّاف" الحديث:
_ حَ نتجاوز برنامج التعارُف الطويل دا، أنتُوا بتعرفُوا بعض مُسبقًا.
أضاف وهُو يبتسم بحماس:
_ وحتّى لو ما حقّ المعرفَة، المُهم فِي سابق معرفَة بينكم وأنا عارِف، لكن أنت عارِف يا عُثمان أنا وافقت بدُون اعتراض ليه؟
طالعهُ "عُثمان" باستغراب ولم ينطق بكلمة، أردفَ الآخر:
_ يعنِي أنا ألقى إنسان بيخاف الله فِي أختِي وين؟ مثلًا، شباب اليُوم دا كُلّه عايز يتونّس ويطلع وينزل مع البت، والواحد بقى خايف من الفكرة دِي ومُرعبة بالنسبة لهُ، إنّما أنت لأ، أنت راعِيت حدُود الله فِيها وكمَان عرفت تتوجّه بمشاعرك لدرب الحلال، دا كُلّه لو ما خلَّانِي أوافق، ماف شيء تانِي بيخلِّيني أوافق.
ابتسمَ "عُثمان" وقالَ بتعبيرٍ مُغدقٍ بالمشاعر:
اومأت وهِي تُناظرُ اسمهَا "د. سُندس العلاوِي" المنقوشَ على اللوحةِ الخشبيّة المُستطيلةِ أمامهَا ثمّ زفَرت بقوَّة:
_ عُثمان، هُو نفسهُ الكان بيحاوِل يتعدّى علي قبل اليُوم، وأنت خلِّيتني أضربهُ.
ابتلعت رِيقها وأردفت:
_ ما مُحتاجة أحكِي عن جنونهُ، المُهم، الليلَة جاء على مكتبِي وهدّدنِي عشان أطلع معاهُ موعد غصبًا عنِّي، وطبعًا من دُون علم سيّاف، عشان حضرة سيادتهُ مُمكن يُؤذيهُ عادِي، وقبل كدا حاول يعملهَا وأنتِ عارفة يا رسيل، أنا عارفَة جنُون آصف، وعَارفة تهوُّر سيّاف إذا عرف إنّهُ قرّب علي بس، الاتنِين ما حَ يزيدُوا النّار إلَّا حطَب، ما عَارفة أعمَل شنُو حقيقِي.
كزَّت "رسيل" على أسنانهَا بغيظٍ وضربَت على الطاولةِ بغضبٍ احتقنَ فِي عرُوقها:
= لأ دا حقِيقي شكلهُ عايزنِي أنفّذ فيهُ قرف الطِب دا وأشرّحهُ.
لفظَ "عُثمان" بهدوء:
_ الظاهِر ما فهم من المرّة السابقة، لكن حَ يفهم لمَّا نتعامَل معاهُ بنفس فهمهُ.
نظرتَا لهُ باستغرَاب، أردفَ:
_ سُندس، أنتِ حَ تعملِي زي ما قال لِيك.
استطردَ مُوضِّحًا:
= لازِم يقع فِي الفخ، عشان هُو واضح إنّهُ ما فاكِر فِي تهدِيد ولا غيرهُ، أنتِ حَ تعملِي زي ما قال لِيك، حَ تمشي مكَان ما طلب منِّك تقابليهُ، لكِن أنا حَ أكُون وراءك مع عناصِر من الشُرطة، وقبل كدا حَ تقدِّمِي عليهُ شكوة رسميّة، والموضُوع اعتبريهُ مُنتهِي، لازِم قذارتهُ دِي تنفضح قدّام الدُنيا كُلّها.
"رسيل":
= وأنا حَ أكُون معاك.
_ تُؤ، أنتِ أحسَن تمشِي لِساجد، زي ما قُلتِ حَ يكُون مُحتاج ليك.
= بسس...
قاطعهَا:
_ بتثقِي فِيني صح؟
= ما قُلنا شيء، أكيد طبعًا بثق فِيك يا عُثمان، بس حاسّة إنِّي عايزَة أفضِّي الغضب الشاعرة بيهُ دا فيهُ.
_ حقّها بيجِي.. أنتِ بس أسمعِي منِّي.
هزّت رأسهَا بالمُوافقةِ وقامَت هامَّةً بالمُغادرة...
❁ باك _ Back❁
جلست "سُندس" على المقاعدِ الخلفيّةِ بالسيّارةِ، بينمَا اعتلَى هُو مقعد السائقِ وأمسكَ بالمقودِ مُتسائلًا:
_ الزول دا قصّتهُ معاك شنُو؟
= من أيَّام الجامعَة وهُو مُلاحقنِي، وأنا ما كُنت مُرتاحة ليهُ، بيحاول يضايقني ويتعدّا حدودهُ وأنا كُنت بصدّهُ، لكن الصد ما زادهُ إلَّا جنُون، لأنّهُ العرفتهُ عنّهُ إنّهُ شخص مهووس، مرَّة قبل كدا كلّمت سيّاف أخوي بموضُوعه وكان حَ يقتلهُ لولا الله ستر عليهُ، وهُو حاول يردّها لسيّاف وفصَل ليهُ فرامل سيَارتهُ، للحظَة كُنت حَ أخسر سيّاف قدَّام عيُوني بسبب المجنُون دا لولا ربّنا كريم بس، بعدِين اتخرّجت من الجامعَة وسمعت إنّهُ سافَر، افتكَرت إنّهُ حَ ينسى موضُوعي، لحد ما ظهر قبل يُومين واتّضح للأسف إنّهُ لسّة مُعلِّق فِي الماضِي، وكمان شغّال مع سيّاف فِي نفس المركز، ما عارفَة كِيف سيّاف ما عرف بالموضُوع.
أجابَ "عُثمان":
_ المركز ليهُ أقسامهُ، ما ضرورِي سيّاف يكُون عارِف بكُلّ التِيم العامِل هناك.
= الحمدلله إنّهُ اتسجن قبل ما يحاوِل يُؤذي سيّاف مرَّة تانيَة.
اومأ:
_ الحمدلله، العالم مُحتاج يتخفّف من الزيّهُ.
أطرقت وهِي تنظرُ إلى يديهَا المشبوكتينِ مع بعضهما ثمّ تنحنحت:
= وشُكرًا ليك كثير، لولاك من بعد الله ما كُنت عارفة حَ أعمل شنُو.
_ كُلّ الشُكر لله، أنا ما عملت شيء.
التقَت أعينهمَا على المرآةِ بنظرةٍ سريعَة، كانت محضَ صُدفةٍ غير مقصُودة، ولكنّها لم تكُن مُجرَّد نظرَة، اختلجَ فِيها شيءٌ بداخلهما، فراحَت تشيحُ نظرهَا بخجلٍ عنهُ وأدارَ هُو مفتاحَ سيّارتهِ وعدّل وضعيّتهُ استعدادًا للقيادَة...
❁ فِي المساء❁
حيثُ اختزلَ النهارُ ملامحهُ فِي نبضِ نجمةٍ بيضاء ناصعَة، وبدأ الصراعُ بين سكُون الليل وصخبَ المدينةَ ينشب، كانت تجلسُ على طرفِ الأريكةِ تنظرُ إلى الساعةِ الجداريَّةِ بينَ الفينةِ والأخرَى، تنتظرُ قدومهُ بفارغِ الصبر، وأخيرًا دلفَ بتعبٍ وهُو يُطفئ الأنوارَ الشاعلةَ أمامهُ بانزعاجٍ من الضوء، توقّفت أمامهُ مُعترضةً طريقهُ قبلَ أن يُطفئ الضوء الأخير:
_ فارِس.
ارتفعَ حاجبهُ:
= نعم.
_ عايزَة اسألك.
= اسألِي.
_ الحياة دِي بتفرق معاك كتِير؟
ناظرهَا بقوَّةٍ دُون رد، صوّبت نحوهُ مُسدَّسًا أخرجتهُ من وراءهَا وأردفت بنبرةٍ مُرتجفَة:
_ سامحنِي يا فارِس، سامحنِي.
أغمضَت عينيهَا بشدّة وسدّدت طلقةً ناريَّةً دوَى صوتها بالمنزل...
يُتّبع...
توقّفت وجعَلت تُطالع المكانَ برِيبة، يبدُو غريبًا، مُوحشًا، مثلَ غاباتِ الأشباحِ المهجُورة، التفتت بفزعٍ إليه حينَ سمعت نداءهُ المُنخفض لها بجانبها، عقدَ حاجبيهِ:
_ بسم الله، أنتِ كُويِّسة يا رسِيل؟
اومأت:
= لكن دا شنُو المكان الغرِيب دا يا عُثمان؟
_ دِي الأمكنَة البيتعلَّمُوا فِيها التصوِيب، بتكُون نائيَة وبعِيدة عن مناطِق السكَن.
= طيِّب.
_ مُستعدّة؟
= أيوا، دا المُسدّس اتفضّل.
أخذهُ عنهَا وراحَ يتفحّصهُ، قالَ وهُو يرمِي بأنظارهِ للأمام:
_ أخدي نفس، وأزفريهُ.. وبسملِي قبل كُل شيء.
= بسم الله...
❁ بعد مرُور ساعتينِ❁
جلَست على الأرضِ تلتقطُ أنفاسهَا وتسترطُ رِيقها، تمسحُ حبُيبات العرقِ التِي تُغطّي وجهها، نظرَ لها وهُو يُحاول إخفاء ضحكهِ:
_ أها؟ لقيتِ السلاح كِيف؟
زفرَت أخيرًا لتستوِي أنفاسها:
= واللهِ ما عارفَة بتتعاملُوا مع الشيء دا كِيف.
ضحكَ خفيفًا:
_ إييك يا رسِيل، لسَّة ما شُفتِ شيء.
= وكمَان ما شُفت؟ أنا صوَّبت عدِيل قدّامك.
_ بتتعلَّمِي سرِيع ماشاء الله، لكِن هُو عايز ليهُ مُمارسة مُستمرَّة.
= حَ أشرب مُويَة.
سحَبت قنينةَ الماءِ من جِزدانها وارتشفت منها قليلًا، مدّ الآخرُ يدهُ إلى جيبهِ وأخذَ المنديلَ القماشيّ ليمسحَ بهِ العرق عن جبينهِ، وجدَها تمدُّ لهُ قنينةَ ماءٍ:
= أشرب.
_ شُكرًا.
قالهَا مُبتسمًا بخفَّة وهُو يأخذ الزُجاجة عنهَا، عادَت لتُمسكَ المُسدّس وأغمضت عينًا لتُحاول التدقيقَ بالهدف، اتّسعت ابتسامةُ "عُثمان" الذِي كانَ يُراقبها باهتمام:
_ عارفَة، أوَّل مرّة أشُوف بنت تتعلّم السلاح سرِيع، أنتُوا بتحتاجُوا سنَة.
= دِي لمَّا تكُون واحدة خوّافة، هسِّي أنا كدا ماسكَاهُ صح؟
اقتربَ منهَا ووقفَ خلفهَا ليصحّح لهَا قبضة المُسدّس، ولكنّهُ سريعًا ما ابتعدَ حينمَا أحسَّ نفسهُ قد تجاوزَ المساحةَ المعقُولة بينهما وأصبحَ قريبًا منها أكثر من اللازِم، استغفرَ ربّهُ وجعلت الأُخرى تُردِّد الحوقلةَ وهِي تُشدّد انتباههَا نحوَ هدفها غير آبهةٍ بما حولهَا...
❁ فِي مكانٍ آخر ❁
"إحدى المُستشفيات"
دلفَ فزعًا إلى إحدى غُرف المُستشفى التِي دلّهُ عليهَا موظّفُ الاستقبَال، مُتجاهلًا مُمانعات من حولهِ، نظرَ إليهِ الطبيبُ الذِي كان يقفُ بجانبِ فراشها وهُو يُحادثهَا باستغراب كمَا فعلت هِي الأُخرى، سألهُ على عجل:
_ دكتُور، أسمَار كُويِّسة؟
= لالا الحمدلله كُويِّسة، أنا بستأذن.
خرجَ تاركًا إيَّاهما لوحدهما فِي الغُرفة، جلسَ بجانبهَا وأمسكَ يدهَا المُتّصلة بالقُنيَّةِ الطبيّة وجعَل يُقبِّلُ أصابعهَا برفق، ابتسمَت:
_ يا حُلو، الحمدلله ياهِي إنا كُويِّسة.
= أحكِي.
_ طقَّة عقرب بسِيطة، وطقّتني وأنا ما كُنت شايفاها.
= كُنتِ شايفة شنُو أنتِ؟ بالك وين؟
_ يا ربِّي، ما خلاص قضاء وقدَر ما كُنت قاصدَة أنا.. طقّتني وأنا بفتّش فِي المخزن تبع المحل.
= أسمَار، أنتِ ما عارفة مُمكن يحصَل لي شنُو لو خسرتِك أنتِ برضهُ، أرجُوكِ انتبهِي على نفسك.
_ أممم، حَ يحصل ليك شنُو؟
رمقهَا بحدّة، ازدردت رِيقها مُعتذرةً:
_ Sorry خلاص، مُمكن تجِيب لي شاورمَا؟
= واللهِ أنتِ تأكلي سلِيقة بس.
قلَّبت عينيها بملل:
_ وليه إن شاء الله؟
= عشان السلِيقة للنّاس الشليقَة.
"أسمَار" بانزعاج:
_ ياخِي ما تستخدم كلامِي ضدّي، حَ أكرهك.
= على أساس أنا حَ أحبِّك؟
_ فارِس، أنا جعانَة.
= واللهِ أوَّل مرَّة أشُوف لي زُول عيّان بقُول جعان.
ضيّقت عينيهَا كأنّها تترصّدُ إجابتهُ قبلَ أن تسألهُ:
_ قصدك شنُو؟
= الفهمتيهُ.
_ أنا بكرهَك يا فارِس.
= شعُور مُتبادل.
_ مُتبادل بتاع عِينك، طِير من قدَّام خلقتِي.
= ما عندِي أجنحة.
_ ياخ أنت مالك ياخ؟
ضحكَ خفيفًا عندمَا أحسَّ أنّها على وشكِ البُكاء:
= خلاص، درامَا ما ناقِص.
_ ياخ أنا ما عَارفة ذاتهُ المرحُومة حبّتك كِيف، ثقيل.
عمَّ الصمتُ للحظةٍ في الأرجاء، أطرقَ لثوانٍ قليلة وعلى ثغرهِ ابتسامةٌ حزِينة ثمّ أجابها:
= لأنّها إسراءَ.
أحسَّت بالذنبِ يُوخز قلبهَا بسببِ الكلمةِ التِي انزلقت من لسانهَا فِي لحظةِ انفعال، تعلمُ تمامًا أنّ "إسراء" هِي المحطَّةُ الوحيدةُ التِي لم ولَن يتجاوزهَا، لفَّت أصابعها حولَ إبهامِ يدهِ ونبَست بتأسُّف:
_ ما قصدِي يا حبيبِي، آسفة.
= ربّنا يرحمهَا، حَ أجيب ليك الشاورمَا وأجِي.
قامَ مُتوجّهًا بسُرعةٍ نحو الباب...
❁ عند الساعةِ الثالثة❁
مُوسيقَى هادئة تغمرُ المكان، طاولاتٌ زُجاجيَّةٌ عائليّة مُوزّعةٌ على المكانٍ بتخطيطٍ مُتناسق، تتّخذُ شكلًا دائريًّا يزيدُ من جمالهَا، أصايصٌ مرصوفةٌ عندَ الواجهةِ الزُجاجيَّةِ للمطعم، جداريَّةُ الحدِيقة ثُلاثيّة الأبعاد، ورائحةُ الأكلِ الشهيَّة تعبثُ بالأنوفِ وتُسبب جوعَ، إلَّا بالنسبةِ لها، فقد كانَت تشعرُ بالتوتُّر وضِيق المكانِ عليها رغم اتّساعهِ، تسترطُ رِيقها
كلَّلت السماءُ جِيدها بالشمس التِي راحت تكنسُ بقايَا الليلِ العالقةِ بالأرجاء، وتُربّت على أمواج ليلٍ هوجاء، خرجَت وهِي تتفحّصُ منظرَ حِذاءهَا الذِي بدا لامعًا جدًّا عند انعكاسِ أشعةِ الشمس عليه، ظلّت مسافةَ الطريقِ تُفكِّر فِي صدِيقتها، الخوف والحُزن والكبد اللذينَ رأتهم فِي عينيهَا يُمزّقها، أخيرًا دلفت إلى المشفَى بعدَ انقطاع، توجّهت نحوَ مكتبهَا وهي تشعرُ بدورانٍ طفِيف، حاولت تجاهلهُ ومُمارسةَ يومها بشكلٍ طبيعيّ، جلست على كُرسيّها وهِي تُراجع الملفَّات، رفعت رأسها إلى البابِ على صوتِ الطرقاتِ المُتواصلةَ ثمّ نبسَت سامحةً للطارقِ بالدخُول:
_ اتفضَّل.
سبقتهُ رائحةَ عطرهِ القويَّةَ فِي الدخُول، نظرت إليهِ في صدمةٍ وروع، اتّسعت ابتسامةُ الآخر المُستفزّة وهّو يُطالعها:
= حبيبتِي الحُلوَة.
_ أ آصِف؟! الجابك شنُو؟
أغلقَ الباب وتقدّم نحوهَا ليجلسَ أمامهَا ويخلفَ أرجلهِ ثمَّ يُجيبها ببرُود:
= جبتِيني أنتِ.
أغمضَت عينيهَا وأجابتهُ بتبرُّم:
_ آصِف، أطلع من هنا، أنت حَ تجيب لنفسك الكفوَة لوحدك.
= كفوَة؟.. كفوَة أكثر منِّك يا سُندس؟
نهضَ وهُو يتوجّهُ نحوهَا ويقتربُ منهَا بدُون توقُّف:
= ياخِي أنا حبِّيتك وأنتِ ما قادرة تفهمِيني، بتتجاهلِيني، بتحرقِيني، ليه يا سُندس ليه؟؟؟
انكمشت على نفسهَا عندمَا انعدمَت المسافةُ بينهمَا وحاولت التظاهرَ بالثبات:
_ أبعد، وإلَّا واللهِ أصرِّخ وألم عليكِ المُستشفَى دا كُلّه.
ابتسمَ بتهكُّم:
= صرّخِي، يمكن المُحامِي الغبِي داك يجِي يعمَل فِيها سُوبر مان تانِي.
سحبَ دبُّوسًا من "الطرحَة" الخاصّ بهَا ثمّ اقتربَ من كتفهَا واستنشقَ عبيرهَا بعُمق:
= صرّخِي، لكِن أنتِ فِي النهَاية لي.
سحبَ الدبُّوسَ الأُخرى فِي وسطِ ارتجافهَا واقتربَ من وجههَا:
= صرِّخِي يا سُندس، صرِّخِي.
أحسّت بأنّ حبالها الصوتيّةَ قد توقّفت عن العملِ فِي حينَها، كهرباءٌ أصابتهَا جعلتها ترتعشُ بافرَاط وحلّ الصمتُ كلعنةٍ عليها، سحبَ الطرحَة عن رأسهَا كحركةٍ أخيرةٍ ممَّ جعلهَا تنفعلُ وهِي ترجوهُ ليُعيده:
_ آصف، آصف أرجُوك لأ.. رجّع لي طرحتِي.
ابتسمَ بانتصارٍ وهُو يرَى ضعفهَا، وكأنّ كُرته قد أصابت المرمَى، مرَّر سبّابتهُ على غرّة شعرهَا الأماميّة الخفِيفة والتِي تُغطّي جبينهَا ثمّ قالَ بهمسٍ أشبهُ بالفحِيح:
= حَ تجِي زيّ الشاطرَة بعدِين على الغداء، ما تحاولِي تتذاكِي وتعملِي فِيها مُفتّحة تكلِّمي أخُوك أو أيّ زُول تانِي.
رفعَ جذعهُ عنها ووقفَ يُعدِّلُ ياقةَ قميصهِ مُستطردًا:
= حَ أرسّل لك اللُوكيشن.
رمَى لهَا بالطرحةِ ثمّ خرجَ وملامحُ وجههِ تقطرُ خباثةً، بينمَا دفنَت الأخرى وجهها بينَ يديهَا غارقةً فِي البُكاء...
❁ فِي مكتبِ عُثمان❁
كانَ غارقًا وسطَ الأوراقِ الكثيرةِ التِي حولهُ ولكن بالهُ أبعد ما يكُون عن الأوراق حاليًّا، كان يُفكِّرُ بهَا، وبوضعهَا وما تمرُّ بهِ، يشعرُ بوخزةٍ مُوجعةٍ فِي صدرهِ كُلّما تذكّر الألم الذِي رآهُ يقبعُ فِي ملامحهَا السماويَّة، نظرَ إلى الشخصِ الدالفِ عبرَ بابِ المكتب، وفُوجئ حينمَا رآها، كأنّها خرجت من بالهِ أمامهُ، نبسَ باستغراب:
_ رسِيل؟؟!
قالت بفتُورٍ واضِح:
= السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته.
_ وعليكمُ السلامُ ورحمةُ الله وبركاته، اتفضّلي.
= عُثمان، أنا عايزاك تعلِّمنِي تصوِيب السلاح، المُسدّس.
"عُثمان" باستغرَاب:
_ كِيف؟...
يُتّبع....